حسن عبدالله واحد من الشعراء البارزين في لبنان والعالم العربي، علماً أنّ مساره الشعري لم يتعدّ ثلاثة دواوين «أذكر أنني أحببت»، «الدردارة»، «راعي الضباب». مسافات زمنية طويلة فصلت بين الكتاب والآخر، أمّا صمته الطويل فلم يُكشف سببه بعد. لكنّ أجواء القصيدة الرقم 12 من فصل «مسرح الأشباح» في ديوانه الجديد «ظلّ الوردة» تنمّ عن شيء من هذا القبيل: «ليس صحيحاً أنني توقفت لسنوات عن كتابة الشعر/ لقد مرّت أيام لم أكتب فيها شعراً/ ثم مرّت أيام أخرى/ وتبعت هذه الأيام أيام وأيّام/ وإذا كانت هذه الأيام قد تجمعّت، وتحوّلت إلى سنوات/ فهذا لا يعني أنني توقفت لسنوات عن كتابة الشعر/ لا يُمكن لشاعر طبيعي أن يفعل ذلك/ لكن، في هذه الأمكنة، وبين هؤلاء الناس/ كيف يُمكن لشاعر طبيعي أن يكون شاعراً طبيعياً؟». يُمكن هذه القصيدة أن تُجيب عن سؤال صمته، إن لم تُعقّده أكثر... لكنّ ديوانه الجديد بكلّ ما يحمله من فنّ وإبداع وتجديد يغفر لصاحبه ذنب الصوم عن الشعر عمداً. «هناك شيء تُمسك به الحياة/ وتُخفيه وراء ظهرها/ ولن أتوقف عن الكتابة/ حتى أعرف: ما هو!»... هكذا هي إذاً افتتاحية كتاب حسن عبدالله الصادر حديثاً عن دار «الساقي» بعنوان «ظلّ الوردة». وليس عبثاً أن يفتتح الشاعر ديوانه بهذا النص، فهو يختصر بلغة مقتصدة وأسلوب متميّز همّه الإبداعي الدائم. يستجيب هذا الكتاب غير التقليدي لمفهوم «الديوان» بالمعنى التقليدي للكلمة، باعتبار أنّه يحوي سبعة فصول مستقلّة، لكلّ منها عنوان رئيس تنضوي تحته مجموعة من القصائد والتأملات. وتحمل هذه القصائد بغالبيتها روح حسن عبدالله الشعرية في الوقت الذي تختلف عن كلّ ما سبق أن قدّمه. «صيّاد الفخ» في ديوانه السابق «راعي الضباب» تحوّل في جديده «ظلّ الوردة» إلى صياد التفاصيل والمشاهد العابرة. تستفزّه أحوال الحياة، فيعبّر عن إحساسه بالأشياء بكلمات قليلة تترك في نفس القارئ تأثيراً عميقاً: «لا وضع مُسيئاً للناس/ مثل وضعهم عندما يكونون مارّة على أرصفة المدن/ فهم آنذاك ليسوا سوى أحجام/ نعمل على ألا نصطدم بها». (من فصل الطيار الآلي). أفكار مدهشة، أسلوب مدهش، بساطة مدهشة. نعم هي الدهشة ولا شيء سواها، تستحوذ عليك منذ القصيدة الأولى في الديوان ولا تتبدّد حتى بعد الفراغ من قراءته. إنها سمة الكتاب الذي يجعلك مذهولاً أمام قدرة الشاعر على التقاط الحيثيات الصغيرة وتقديمها بأسلوب زاخر بالظرف والسخرية: «لم أنجُ من لدغة أفعى في طفولتي/ ومن زلزال كبير في الطفولة نفسها/ ومن محاولة انتحار في شبابي/ ومن أربع عشرة حرباً/ لكي أجيء وأموت في حبّك/ يا ميم لام نون» (من فصل «حب من دون حب»). يكتب حسن عبدالله «ظلّ الوردة» بحماسة شاب يافع ونضج شيخ مُجرّب. يغلب على القصائد طابع «الشذرات» التي تتخطّى حدود التجربة الفردية لتبلغ التجربة الإنسانية: «الموت يروح ويجيء من حولنا/ بأقدام حافية لكي لا يُحدث الجلبة/ التي توقظنا من حلم الحياة» (قصيدة من فصل «حلم الحياة»). قد تصحّ قصائد حسن عبدالله وتأملاته هذه أن تكون أمثالاً وحِكَماً لشدّة واقعيتها وبساطة أسلوبها وعمق معناها: «الحبّ نشاط إبداعي/ والزواج نشاط مهني/ يُزهر الإنسان في الحبّ/ ويُثمر في الزواج» (حبّ من دون حبّ). يقترب الشاعر حسن عبدالله في هذا الديوان من كاتب مثل برنارد شو الذي اشتهر بأقواله المأثورة المعروفة بدقتها وصدقها وطرافتها. وبرع حسن عبدالله في تغليف الحقيقة المُظلمة أحياناً بدِثار السخرية الجميلة كقوله: «الحقيقة تُقيم في النصف المُظلم من الإنسان/ والترهّات، في نصفه المُضيء!» (حلم الحياة). حسن عبدالله، واحد من آخر شعراء التفعيلة في العالم العربي وأكثر الأوفياء للقافية والوزن، انقلب على نفسه وعلى الشعر الذي عُرف به فقدّم تجربة جديدة ومغايرة تبرز كومضات شعرية تُراعي إيقاع الحياة السريعة وذائقة الأجيال الجديدة التوّاقة إلى كل ما هو خفيف وبسيط، من دون المساومة على جمالية اللغة وعمق المعنى ورشاقة الأسلوب: «خوفي من وجودي مع الناس/ لا يزال أقل من خوفي، من عدم وجودي معهم/ لذلك لم أعمد بعد إلى إقفال بيتي من الداخل/ ورمي المفتاح من النافذة!» (من فصل الطيار الآلي). إلاّ أنّ الديوان لم يخلُ من بعض المقطوعات الموزونة على غرار: «لم أعمل بحَذَق/ لم أكسل بحَذَق/ العمر مَرَق/ خَرَقاً ونَزَق». كما اهتم الشاعر بموسيقى القصائد والمقاربات اللفظية والبديعية، فلم تطغَ معاني القصائد على أناقتها: «ما أصدق هذا القول: يا للهول» (الطيّار الآلي)، «شرس ككلب/ شرس كقلب» (مسرح الأشباح)، «هل ترين الفراشة؟/ عجباً/ كيف تصمد هذه الهشاشة/ بجناحين؟!» (تحت شجرة الجوز). ومن مبتكرات هذا الديوان السخيّ بفصوله وأفكاره وصوره، تأتي «التشابيه» لتضيف إلى قاموس اللغة العربية صوراً بلاغية جديدة يُمكن بعضها أن يُغني لغتنا المحكية مثل: «أبخل من صخرة» و «صارم كمربّع»، بالإضافة إلى التشابيه الأخرى: «كان الينبوع/ كعين تبكي/ من الفرح» و «الهرّة الملتفة على نفسها قرب المدفأة كعكة من هدوء»... ظلّ الحياة لا يقتصر «ظلّ الوردة» على كونه ديوان شعر وتأملاّت، بل يشتمل أيضاً على بُعد فلسفي وميتافيزيقي، فيه تتجسّد عصارة حياة. الحياة بكلّ صورها وأشكالها وتناقضاتها. لعبة الظلال تمتدّ من قصيدة إلى أخرى، فتغدو الحياة التي نعيشها مجرّد ظلّ لحياة أخرى نجهلها. وهذا ما تُعبّر عنه القصيدة الثالثة من الفصل الأول «تحت شجرة الجوز» ذات الطابع الغرائبي: «كان ذلك ظلّ شخص/ ينظر إلى ظلّ حرذون/ يركض على ظلّ غصن/ في ظلّ شجرة زيتون». وبنظرة ساخرة تحمل الكثير من الحسرة والمرارة، يطرح الشاعر أسئلته الوجودية وتأملاته الغارقة في عبث الحياة: «لا نملك إلاّ أن نتخبّط/ فنحن نوهَب الحياة/ من دون دليل يُشير إلى طريقة الاستعمال». ثمّ ينتقد ضعف الإنسان الذي ينتبه الى كلّ شيء ما عدا النقص الموجود فيه. وهذه الفكرة يُكرّسها النصّ الأول من الفصل السابع «الطيّار الآلي»: «كلّ إنسان هو إنسان من ذوي الاحتياجات الخاصة». وأخرى في الفصل الأول: «البلبل يُغنّي/ والجندب يقفز/ والسمكة تسبح/ والثعلب يُمثّل/ والدبّ يرقص/ أمّا الإنسان فيمضي معظم الوقت وهو يتمرّن على ذلك!». ويُسجّل صاحب قصيدة «أجمل الأمهات» المعروفة موقفه من الحياة الاجتماعية التي تنتهك «إنسانية» الإنسان: «لا تكون للإنسان الكرامة التي يستحقها/ إلاّ عندما يكون وحيداً». ثمّ يُقدّم الشاعر مديحاً للكسل فيقول في نصّ: «كم أحنّ إلى تلك الأيام/ التي لم يكن فيها وقتي ثميناً» وفي آخر: «أيّها النوم حتى الضحى/ أين أين ذهبت؟». فضلاً عن نصّ طريف يُصرّح فيه: «ها أنا أخيراً حرّ/ بعد استقالتي من العمل/ إنّ ذلك يُشبه انطلاق عطسة حُبست طويلاً». أمّا الحياة فتبدو في ديوان حسن عبدالله الجديد قاسية. صعبة. مُنهِكة إلى حدّ يغدو فيها الموت أكثر ليناً ورقّة من الحياة نفسها: «الميت يهدأ/ والحيّ يتلوّى». هي حياة لا حقّ فيها ولا عدل: «في هذا العالم/ الخير سائح والشرّ مُقيم». ثمّ يُشير إلى خطر الحياة في عالم يحوي أسلحة مدمرة عبر واحد من أجمل نصوص «تلك الحرب»: «هل تظنّون الأسلحة/ البندقية والقنبلة والصاروخ/ مجرّد أدوات صمّاء/ لا تميل للتعبير عمّا تختزنه في داخلها؟/ إذا كانت آلة العود في بيتك تُثير في نفسك الرغبة في العزف/ فلمَ لا يفعل ذلك المدفع؟». وعلى رغم السخرية التي يتسلّح بها الشاعر، إلاّ أنّ قصائده تتكشّف عن حياة تراجيدية، كما نرى في القصيدة الأولى من فصل «حلم الحياة»: «عندما تزورينني/ احملي مصباحاً في يدك/ فالحياة مُظلمة من حولي»، وكذلك القصيدة الرقم 10 من الفصل نفسه: «حياتي، بوجه عام، كانت سعيدة/ فالمرّات التي تمنيت فيها الموت/ لا تزيد عن مئة مرّة!». تأملات في الطبيعة ليس مُستغرباً أن يُكرّس صاحب «الدردارة» الفصل الأوّل من ديوانه للطبيعة. ولا عجب في أن يفرد ابن قرية الخيام الجنوبية كلّ هذه المساحة لقصائد وتأملات تحتفي بالطبيعة وهو «شاعر الأشجار أكثر ممّا هو شاعر أي شيء آخر». في «تحت شجرة الجوز» يبدو الشاعر عالماً بالطبيعة وأحوالها. هو يكتب عنها حاملاً بيده مجهراً يُكبّر تفاصيل أثيرية لم يسبق أن انتبهنا حتى لوجودها: «مضمومة الأجنحة/ تندفع عصافير الدوري/ من شجرة الجوز إلى شجرة التين/ كأنّ هناك من يُراشق بها». ويُعلن الشاعر عن علاقته الحميمة بالطبيعة ومعرفته بأحوالها: «في البرية ونحن صغار/ كنا ننزع عن كلّ شيء ما يسترّ عريّه/ أنظر إلى هذا الحقل المتلألئ تحت شمس الربيع/ إنني أعرف الثياب الداخلية لكلّ زهرة فيه». ومقابل «الطبيعة» التي تُجسّد المكان الأحبّ إلى قلب الشاعر، تحضر المدينة بضجيجها وشرذمتها وقسوتها: «ضجيجٌ في بيروت/ لدرجة أنّ الإنسان/ لم يعد باستطاعته أن يسمع صوت ضميره». ثم يُقابل بيروت، المدينة التي يعيش فيها والخيام، القرية التي يتوق إليها بمقطوعة ظريفة في فصل «مسرح الأشباح»: «في الليل، في الخيام/ أمشي برفقة القمر/ وفي الليل، في بيروت/ برفقة عبّاس بيضون». «ظلّ الوردة» كتاب خرج من وحدة الشاعر وصمته، فكان أشبه بقنبلة صوتيّة لا بدّ من أن توقظ كلّ من لم ينتبه، عن قصد أو غير قصد، أنّ ثمّة شاعراً استثنائياً يعيش بيننا يُدعى حسن عبدالله. ملاحظة: يوقّع الشاعر حسن عبدالله ديوانه الجديد «ظلّ الوردة» عن دار «الساقي» الإثنين بين الساعة السابعة والتاسعة مساءً في «دار المصوّر» في الورديّة- الحمرا.