-1- تعود بي الذاكرة إلى ما قبل عقود ثلاثة؛ حينما شدني كثيراً ديوانه الأول بحجمه الصغير وعنوانه اللافت «هنا بار بني عبس الدعوة عامة» كان الديوان مختلفاً في بنيته، فقد تألف من قصيدة واحدة. وكان مختلفاً في جرأته التي تبدأ من العنوان ولا تتوقف عند السطر الأخير. صدر ذلك الديوان في ظروف عربية مثيرة، وفي أعقاب اتفاقيات «كامب ديفيد»، وما تركته في الواقع العربي من خلافات جذرية وانقسامات حاسمة، ومن تداعيات لا تزال آثارها بادية للعيان حتى اليوم. في ذلك المناخ الانقسامي نفسه، كتب شعراء عرب كثيرون قصائد مماثلة، وكتب نزار قباني هجائياته العربية، لكن ديوان الشاعر حبيب الصائغ، أو بالأحرى مطولته الشعرية، كانت تختلف عن كل ما ظهر من شعر في هذا السياق، وفي تلك المرحلة، فقد خلت من النزق المرحلي، ومن الحالة اللغوية المباشرة، وإن كانت قد أصابت كبد الحقيقة على حد التعبير الاستعاري القديم. وحين نسترجع اليوم ذلك العمل الشعري الذي شكَّل أبجديات حبيب الصائغ نجد أنه لم يفقد توهجه بعد أن مر عليه كل هذا الوقت الطويل، لا لأن الأوضاع لم تتبدل ولم تعرف التغيير نحو الأفضل وإنما، لأن الشاعر نجح في استدعاء التاريخ والاستعانة بما يجسد وجع الواقع من مرجعيات متعددة تبدأ من «ابن ماجد» فارس البحر العربي الذي خبر أسرار البحار واستوعب مسار النجوم، وكان خلاصة ما وصلت إليه الحضارة العربية في التعامل مع المحيطات. واللافت أن الشاعر لم يكتف بالاحتفاء بهذا الفارس بل تماهى معه «كنت ابن ماجد ساعة ألقى الشراع ففر القراصنة العاشقون» ومن أبن ماجد إلى عنترة العبسي فارس الصحراء. ويلاحظ أن الشاعر في استدعائه لهذين الفارسين قد انتظر عودة الأول لإجلاء ظلمات الواقع ألف عام لكنه لم يأت، كما انتظر عوده الآخر وهو عنترة زمناً أطول لكنه لم يأت أيضاً فخاب أمله به. ومن هنا فقد قرأ شخصيته قراءة شعرية رمزية مخالفة للقراءة النثرية المعاصرة فهو ينظر إلى أن فروسيته توقفت عند حدود خلاصه الشخصي ولم يهتم بتحرير من كانوا يشاركونه حالة العبودية والاسترقاق. فكانت قراءته معاكسة لتلك القراءة النثرية وبعض القراءات الشعرية السائدة التي رأت في عنترة فارساً نبيلاً نجح في تحدي الحب المقموع، وناضل في وجه الإقصاء والتمييز العنصري. وإذا كنّا في الديوان - القصيدة لم نعرف سبباً لغياب ابن ماجد فأننا قد أدركنا سبب غياب عنترة أو بالأحرى سبب تخلفه عن الحضور لمواجهة الواقع العربي الأليم فهو «ما زال في البار يشرب نخب الوصول إلى الملك المستبد» ولم يكن أمام الشاعر وقد أدركه اليأس من عودة الفارسين سوى الذهاب إلى عبلة (رمز العروبة والثورة) ليجد عندها الحل الضائع ويأنس بحبها وبما تضفي عليه من أحلام محفوفة بالشغف الذي لا يخلو من ومضات الأمل: «حنيني إليك يوجهني/ نحو دار بني عبس/ حيث المروءة تلقى الرجال/ وحيث الرجال الرجال/ تظلين يا عبل/ ينحسر الموج/ عن مقلة الكون/ أنت امتداد المروج/ اعتداد السماء بزرقتها/ هل أموت،/ وشعرك يلتف حولي/ ويمتد حول عروقي؟» (ص 36). والحق أن ذلك الاستدعاء من قبل الشاعر لم يصدر عن حنين إلى الماضي وإنما عن شعور بأهمية ما يجري في الحاضر وما كان يقرأه عن احتمالات المستقبل، ولكونه يعكس بلغة طرية صورة ما كان يجري زمن كتابة الديوان / القصيدة. مع تقارب المعنى من زاوية واقعية مع ما يجري الآن من تخلي النخبة العربية عن الحلم العام إذا ما تحقق لها الحلم الخاص، وما رافق ذلك المعنى من براعة فائقة في انفتاح أفق الصورة وإيغاله في توظيف هذا الاسترجاع أو الاستدعاء توظيفاً رمزياً وإشارياً أعطى للديوان/ القصيدة بعداً حضورياً وقدرة على العبور المستمر نحو أزمنة قادمة، وهذا شأن الإبداع المتعدد الرؤى والأبعاد حين ينهض بتحولات تنضح بأكثر من مستوى: «ويا دار عبلة/ خلفي المحطات/ تسأل عن لون عينيك/ والشجر الأصطناعي/ يسأل عن رئتيك/ اليباس انطفاء الشتاء.../ التسلل أصبح أسهل/ إن الخيانة تحمل ختم الحكومة» (ص21). المواجهة هنا تبدو من الخارج هروباً في حين أنها لا تعدو أن تكون دخولاً طبيعياً إلى الرؤية الشاملة وصولاً إلى إسقاط معطيات الماضي على الحاضر فكأن الشاعر يقتص من نفسه فيغرقها في بحر من التوحد الأليم، لا عنترة باقٍ ولا عبلة، بوصفهما رمزين دالين على فضح تغييب الإنسان العربي عن ذاته وكينونته، وانشغاله بحالة صراع سرابية الشكل والمضمون بعيداً عن استشراف رؤيا خلاصية للوجود العربي من قبضة التمزق والتفتت السائدين: «وحيد أنا/ ضائع كالفصول الشريدة/ إن الرثاء انتهاء الحضارات/ فلتربطوني إلى شاهد القبر/ كيما أغني/ وحيد أنا». إن بدايات الشاعر -أي شاعر- جزء لا يتجزأ من أساسيات كيانه الشعري، وما من شك في أن أسلوب الشاعر حبيب الصائغ قد تغير وتطورت لغته، وتعمق تشكيل قصائده، إلاّ أن بداياته لا تزال تشكل بُعداً تواصلياً، جديراً بفسحة من التأمل والقراءة والنبش بين السطور. -2- لا أدري إن كان الشاعر حبيب الصائغ قد انقطع عن كتابة الشعر في العقدين الأخيرين أم أنني انقطعت عن متابعته بعد وقت من التواصل الحميم. وفي الأعوام الأخيرة بدأت تشدني إليه، بل تأسرني كتاباته المغمورة بالشعر، وما هو أندى من الشعر، عبر زاويته اليومية التي ينشرها في جريدة الخليج تحت عنوان «لحظة حرية» وفيها يمتزج النثر/ الشعر، بالشعر/ الشعر. ويقدم فيها كل يوم لوحة نثر فنية لا تخلو من مقاطع شعرية. يشاركني في قراءتها والإعجاب بها العشرات ممن أعرفهم، من شعراء ونقَّاد وقرَّاء على درجة عالية من حسن الاختيار لما يقرأون. وهذا النوع من الكتابة التي تجمع بين الشعر والنثر، أو بالأصح الذي يتماهى فيها النثر مع الشعر، أو يتزاوج معه لا يبدو في أوج بهائه وعذوبته، كما يبدو مع هذا الشاعر الذي يمتلك حساً فياضاً وذائقة صافية، قادرة على إدراك المسافة الملتبسة بامتياز بين الشعر والنثر، ويحظى ببراعة فائقة في صنع الدهشة والنظر إلى الشاعر بوصفه صانع دهشة. ولكي لا أذهب بالقارئ بعيداً، أدعوه ليرافقني إلى قراءة هذه النماذج المختزلة، المصفّاة من شعر هو الشعر، ومن نثر هو الشعر، التقطتها عشوائياً، ومن أقرب ما بين يدي من كتاباته الجديدة التي تطالعنا كل يوم في تلك الزاوية من الخليج، ومنها ما يدهش القارئ ويجمعه بالشعر في أبهى تجلياته اللغوية والفنية، حين يحدثك تارة عن ظلك وقلبك، وتارة عن مشارف الذهول، ولؤلؤ الهذيان ونجمة العنكبوت، وتارة عن حواس بلا حدود ولا جدران تقف حائلاً دونما ينشِّط المخيلة وعما لا يخطر على بالك من موضوعات تبدأ نثراً ثم يحملها الشعر إلى البعيد، البعيد: «في صمت دمي الفكرة تخترع العالم ثم تكوِّنه/ في خلجات الحيز ذرات متورّمه، وعلامات استفهام/ وجداول تبحث عن منبعها، ومسافات تطحن حنجرة التكوين الأول/ يتمزق أفق الحيز. تنمو ألسنة في أفضية الغابات، ويضمر ثدي الأرض/ الفكرة تستوطن كالمارد ما بين كريات دمي/ وتصالح بين اللونين الأبيض والأحمر، ثم تقود مظاهرة صاخبة/ ضد الذهن، فيوقفها الحراس الموكول إليهم أمن دماغي./ أمقت طعم الفوسفور الجاثم في جمجمتي. أمقت بوابات العقل الحجرية/ هل أحصيت حواسك؟ إني أحصيت حواسي من قبل ومن بعد/ أعد أعد أعد أعد أعد أعد، وأصرخ في الثابت والعادي./ الأشياء تمادت في الديمومة، والممنوع تمادى في الأشياء حولي». تساءل الشاعر الحبيب في زاوية أخرى من زوايا «لحظة حرية» عن حدود الحقيقة والمجاز، لتحديد مكان القلب في الإنسان. وهل صحيح أنه في المكان الأيسر من الصور، وهل يمكن تحديد مكانه؟ وأنا بعد قراءة المقطع الشعري السابق أتساءل عن الشعر، هل يمكن الإمساك بمنطقه، والبحث عن تضاريس وتخوم تحد من انطلاقه؟ وفي زاوية أخرى بعنوان «التباس» يحاور فيها الشاعر بنثره الجميل الطيف الطائف. ومن عسى يكون هو في مطلق التعبير والتصور، ثم يقف بنا مع الشعر/الشعر وجهاً لوجه: «ومنذ ثلاثين عاماً ويومين قاومت ساعة روحي إلى آخر الضوء قاومتها وأخذت بأسبابها صاعداً نحو حرية الطير حين يموت، فينأى بأجنحة غير مرئية، ويجرجر ذيل الخديعة في جسمه وهو يسقط لو أننا نمعن البصر المحض كنا رأينا القبور الصغيرة عالقة في الهواء. قبور العصافير أصغر من أن ترى، والصقور أخاديد برية في السماء. والنسور الهداهد، تحمل أجنحة كالقبور ويحملها حظها القدري. البلابل والبوم، لا مفرد فيؤنث، لكنه كالمذكر لا يتذكر حتى علامات إعرابه...». وسواء أتى الشاعر ببقية المعنى المسكوت عنه في نهاية هذا المقطع أم أعطى للنقاط أن تقوم بالمهمة، فقد بلغت الجملة الشعرية في هذا النص المكثف بصوره الرمزية العميقة حداً يفوق كل ما بشرت به الذات الشعرية المعاصرة. وهنا نتوقف لنلتقط من إحدى هذه الزوايا عبارة باعثة على المرارة تقول: «في كل شاعر كائن مسكون بكآبة الدنيا وتعب الكون» لعلها تكون التعليق الممكن على سحابة الحزن والتشاؤم تلك التي تلف قصيدة الطيف وقبورها التي على الأرض والفضاء. وفي زاوية أخرى يتداخل فيها النثر/ الشعر مع الشعر/ الشعر، يتذكر الشاعر زمن الطفولة الأولى ويحتفي بالمهد ذلك المكان الآمن الحنون الذي يشبه قلب الأم. ويبدأ النص نثراً شعرياً عذباً ثم يتصاعد إلى الشعر / الشعر: «كم نمنا ونامت طفولتنا على وقع تلك الموسيقى النائية في المكان والزمان، وكأنها شاهد قبر، وحيد في الصحراء! كم نادمنا حلمنا... أيها المهد كيف تحوَّلتَ بعد تلك العقود إلى طلل؟ أيها المهد كيف غادرتنا ونحن ما نزال أساراك وأولادك: «من ترى علّم الأمهات الصغيرات/ كيف يسرِّبن من كوّة للتأمل مفتوحةٍ أغنياتِ الأرق؟/ أيها الوجه: نم!/ أيها القبر: نم!/ أيها المهد: نم!». وما أكثر النثر الشعر الذي يتخلله الشعر / الشعر من ذلك هذا المقطع الذي نظلمه إذا وضعناه في سياق النثر، وهو مغمور بكل هذا القدر من أشعه الشعر وظلاله: «الفضاء واسع بعيد» والدرب ممزوج باسفلت الوحشة، وليس لك أيها الإنسان إلاَّ أن تضيء الفضاء الجهم الماثل في داخلك خالقاً من العتمة ما يرى أكثر من العين، وما يسمع أفضل من الأذن ، وخالقاً من مشاعرك وأفكارك وكلماتك ودموعك وأحلامك وإنكساراتك مدى شاسعاً لا يحد، ومحاولاً دون هوادة اختصار البحر في لحظة، والدهر في موجه». وما أكثر هذا الشعر/ الشعر المتناثر بين سطور النثر/ الشعر، وكلاهما يكشفان عن موهبة سامقة أكثر اخضراراً من الأشجار وتجدداً من مياه الأنهار.