من يعيد المارد إلى القمقم؟! تبدو الأقنعة والوجوه الأمريكية الزائفة في الحرب على "تنظيم داعش" قد مُزقت تماماً..! قاسم سليماني قائد فرقة القدس التابعة للحرس الثوري الإيراني يقود الهجوم في العراقوسوريا على المدن السنية، وربما نراه قريبا في صنعاء أو في أي عاصمة عربية أخرى حتى يكتمل المشهد "الإمبراطوري الفارسي" الذي تبجح وتحدث عنه مستشار الرئيس الإيراني روحاني. سليماني رجل الظل والشبح الغامض يظهر فجأة كما لو كان نجما صاعدا في فضاء الشهرة والأسطورة، الأسطورة الفارسية التي تبحث عن بطل في فضاء عربي ممزق ومنقسم حد التشظي. سليماني لا يكتم على وجوده في العراقوسوريا فهو ينشر صوره بهيئات وطلعات وزوايا مختلفة، وفي مواقع متباعدة من جنوبسوريا وصولا إلى أبعد نقطة في شمال العراق، وتتنوع صوره بين الضحك والمداعبة والوضوء والصلاة وقراءة القرآن والأكل وشرب الشاي والرقص على مداخل المدن والقرى التي تواجه المليشيات المسلحة. تجديد الفوضى ما يحدث تحت إدارة سليماني هو عملية تجديد لعناصر الاضطراب والفوضى التي صبغت العراق في العشر السنوات الفائتة، وهو يقع ضمن الصراع المذهبي على النفوذ وتقاسم غنائم الحرب، وتصدير "ولاية الفقيه" لكن من دون مجاهرة. سليماني جنرال عسكري ميداني يؤمن المشورة والسلاح والذخيرة للميليشيات الشيعية، وبواسطته تستفيد طهران من الفراغ العربي لتتمدد وتفرض نفوذها، لذلك يندفع هادي العامري -النائب في البرلمان العراقي وزعيم منظمة "بدر" المنضوية في قوات الحشد الشعبي- في طلبه من منتقدي التدخل الإيراني والمستشارين الإيرانيين إلى "أن يقفوا لهم وقفة إجلال واحترام". مؤكداً بلغة التابع المسلوب الإرادة أنه لولا وجود الأخ قاسم سليماني لكان العراق الآن تحت سيطرة تنظيم داعش، داعياً العراقيين "لأن يقيموا تمثالاً لهذا البطل امتناناً وعرفاناً"، على حد قوله. سليماني يتواجد في كل مكان من العراقوسوريا وحتى أفغانستان وطاجاكستان وأذربيجان. يعرف سوريا وكأنه ولد فيها، ويعرف العراق جيدا أيضا، وبحسب نائب رئيس الوزراء العراقي صالح المطلك فإن "كل الأشخاص المهمين في العراق يذهبون لرؤيته". اتهمته أمريكا بالتدخل في العراق وزعزعة الأمن فيه، كما وصفته صحيفة "واشنطن بوست" بأنه "من أهم صناع القرار في السياسة الخارجية الإيرانية". ويعتبره كثيرون في العراق وفي سوريا بأنه "أقوى مسؤول أمني في الشرق الأوسط". وفي يوليو عام 2011 نشرت صحيفة "الغارديان" خبرا قالت فيه إن نفوذه في العراق كبير "إلى حد أن البغداديين يعتقدون أنه هو الذي يحكم العراق سرا". وخلال إحدى إطلالاته الأخيرة، قال سليماني صاحب اللحية الرمادية الكثة متباهيا: إنه "ما من بلد أو قوة باستثناء إيران قادرة على قيادة العالم الإسلامي اليوم". يتبع مباشرة للقائد الأعلى للحرس الثوري علي خامنئي، ويُقال إنَّ خامنئي وصف سليماني بأنَّه "شهيد الثورة الإيرانية الحي". ولد الجنرال عام 1957، وبعد عام 1975 وجد سليماني -الذي بلغ حينها سن الثامنة عشرة- عملاً له في إدارة المياه المحلية في مدينة كرمان، ومن غير المعروف إنْ كان قد شارك في الاحتجاجات ضدّ نظام الشاه آنذاك. لكنه تطوع بعد فترة قصيرة جدًا من قيام الثورة الإسلامية عام 1979 في الحرس الثوري الذي كان قد تشكّل حديثًا كقوة خاصة كانت تريد حماية النظام. وعلى الرغم من أنه لم يكن يتمتع بتدريبات عسكرية ولا بخبرة قتالية لكنه كان على ما يبدو موهوبًا، بحيث تمت ترقيته بعد وقت قصير من تلقيه تدريباته الأساسية الخاصة إلى رتبة مدرّب، وأرسل في مهام خاصة داخل إيران. قمع الأكراد ومثل قمع تمرد الأكراد المسلح في مدينة مهاباد (في شمال غرب إيران) بين عامي 1979 و1980 خطوة مفصلية في حياته الوظيفية، فعلى الرغم من أنه لم يكن له دور بارز في تلك العمليات، إلا أنها شكلت له تجربة غنية في القتال العسكري غير المنظّم، وهيأته ليترقّى في سلم المراتب العسكريّة في الحرس الثوري. وبعد عودته تولى قيادة فيلق القدس المحلي في كرمان، والذي تأسس حديثًا في تلك الأيام والتابع للحرس الثوري. في الفترة الممتدة بين عامي 1980 وحتى عام 1988، أي طوال الحرب مع العراق، حارب على جميع جبهات القتال تقريبا، وشارك في جميع المعارك، وتولى قيادة فيلق "41 ثار الله"، وهو فيلق محافظة كرمان. وشارك في تخطيط وإدارة العمليات العسكريّة التي قام بها فوج "9 بدر" في ما عرف ب"الانتفاضة الشيعيّة" ضدّ حكومة الرئيس صدّام حسين بُعيد حرب الخليج الأولى. وأرسل بعدها إلى الحدود الأفغانية لمحاربة عصابات المخدرات التي كانت تسيطر على مناطق شاسعة من الصحاري في محافظات كرمان وسيستان وبلوشستان وخراسان. وأصبح منذ عام 1998 قائد فرقة القدس (نيروي قدس)، خلفاً لأحمد وحيدي، وهي فرقة تابعة لحرس الثورة الإسلامية، وتتولى تنفيذ العمليات الخاصة خارج إيران. وعلى خلاف العادة السائدة في العلاقات الدبلوماسيّة، تكفل سليماني بشكل حصري بالتفاوض مع الأمريكيّين بخصوص التعاون معهم في الملفين العراقي والأفغاني، واستطاع أن يطور شبكة علاقات واسعة مع معظم الشخصيات والأحزاب القوية سياسياً في العراق، من مختلف الاتجاهات. وفي السياسة العراقية، من النادر أن تشارك جهة سياسية سنية أو شيعية في الحكومة العراقيّة من دون وجود تفاهمات وعلاقات بينها وبين سليماني بشكل مباشر أو غير مباشر. علاقة أمريكية غامضة علاقته مع الولاياتالمتحدةالأمريكية غامضة، فواشنطن تتهمه بتدريب "الميليشيات الشيعية" لمحاربة قوات التحالف الدولي في العراق، وتقول إسرائيل: إن "فيلق القدس" وقف وراء الهجمات ضد إسرائيليين في صيف 2012. ورغم أن الولايات المتَّحدة تعتبره شخصًا "إرهابيا"، من الأفضل عدم الدخول معه في صراع بصورة مباشرة إلا أنها تتعامل معه سرا، وتوفر له غطاء جوياً غير مباشر في تقدمه على أرض المعركة. ساعد سليماني في الأعوام الثلاثة الأخيرة الرئيس السوري بشار الأسد على قلب المكاسب التي حققها المقاتلون المعارضون في سوريا إلى عكسها، بعدما بدا أن النظام السوري على وشك الانهيار. وأمر سليماني بنقل عشرات الآلاف من أفراد "الميليشيات الشيعية" من إيرانوالعراق ولبنان ومن بلدان أخرى عبر الجو إلى سوريا، وبحسب معلومات المراقبين السوريين فإن العديد من طائرات النقل المحملة بالأسلحة والذخائر وغيرها من البضائع الأساسية القادمة من إيران لا تزال تهبط كلّ يوم في سوريا. وانتشرت شائعات في يوليو عام 2012 أن سليماني لقي حتفه في الانفجار الذي وقع في دمشق، وأودى بحياة أربعة من أركان النظام السوري، غير أن الحرس الثوري الإيراني نفى هذه الأخبار. الملف الفلسطيني وفي الملف الفلسطيني، كان سليماني حاضرا بقوة، ولعب دورا محوريا في علاقات إيران مع حركات فصائل المقاومة في غزة منذ عام 2006، وفي العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة خرجت تلميحات تقول إن إيران زودت المقاومة بالصواريخ وبعض الأسلحة الهامة. سليماني حاضر في مناطق شاسعة من الجغرافية المحيطة وغير المحيطة بإيران، ويبدو أن الإيرانيين يراهنون على إبقاء المنافسين أو المهاجمين المحتملين في حالة ضعف. فعندما تكون الدول المجاورة غير مستقرة، يمكن حينها السيطرة عليها والتحكم فيها بصورة أفضل. كما أن إيران أصبحت ضرورة إستراتيجية الآن بالنسبة للولايات المتحدة وتحولت إلى شريك محتمل في الحرب ضدّ المتشددين وضدّ "دولتهم"، على الرغم من العقوبات والصراع حول البرنامج النووي الإيراني. استغلال الفرص سليماني، الرجل الأمني والعسكري نجح في مسعاه بأن وضع هدفا واضحا تمثَّل في ضرورة عدم السماح باستهداف إيران مرة أخرى بهجوم جديد، وتحولها إلى قوة مسيطرة في منطقة الشرق الأوسط. ويقول محللون سياسيون إن سليماني لم يكن يتّبع خطة رئيسية، بل كان يستغل بذكاء كل فرصة مواتية. وبعد الغزو الأمريكي للعراق، بات من الواضح أن إيران أصبحت تنظر إلى العراق على أنَّه ساحة خلفية لها، ساحة إستراتيجية، حتى إن سليماني نفسه هو الذي ساهم مساهمة مباشرة في تعيين نوري المالكي رئيسًا للوزراء، وربما لعب دورا أيضا في استبداله بحيدر العبادي. رجل غامض سليماني رجل غامض لا يظهر كثيرا في وسائل الإعلام، وكان أول ظهور له في معارك فك حصار فرضه تنظيم "داعش" لمدة شهرين على بلدة آمرلي التابعة لمحافظة صلاح الدين شمال العراق، وهو ظهور لم يؤكد ولم يُنفَ رسميا. سليماني صدامي بما فيه الكفاية، فهو يدير الحوار مع الولايات المتَّحدة الأمريكية، عندما يعتقد أن ذلك مفيد، ومن ثم يقطع قنوات الاتصال عندما لا يكون بحاجة لها، وضمن هذا السياق كانت تأتي «براغماتيته» في صالحه حتى الآن. يراد له أن يكون بعيدا عن المشهد الطائفي وعمليات التطهير العرقي والمذهبي وتذويب عروبة الشعب العراقي التي تمارس حاليا، رغم أن لا أحد (الجيش والحشد الشعبي والمليشيات) يجرؤ على إطلاق رصاصة إلا بإذن منه. تهجير السنة ولا تبدو الميليشيات المسلحة معنية بدحر مقاتلي "داعش" من المناطق التي سيطر عليها التنظيم، بل الوصول لعملية تطهير طائفي وتهجير للسنة من أجل خلق واقع ديمغرافي جديد في عدة مناطق، مثل محافظة ديالا وشمال بغداد والأحياء المختلطة في العاصمة. فهل باتت المهمة المستحيلة الآن أمام العرب والعالم هي وقف عملية الانزلاق نحو الجحيم، وإرجاع هذا المارد إلى القمقم، مارد خرج مع ومن تحت عباءة سليماني. مارد الرؤية الإمبراطورية التي تجاوزت نظرية "ولاية الفقيه" بكثير.؟! قاسم سليماني