الحق أقول لكم، لقد أنهكتنا اشكالية السعودة.. في العشرين عاما الماضية تقاذفنا السهام.. حتى تكسرت النصال على النصال! كل يؤلمه الجرح الدامي، وكثير منا يئن بصمت، وقليل يجلجل في العويل.. لقد انقسمنا إلى صفين حول قضايانا، وفي إطار تأزيم القضايا وتحويلها إلى ساحة صراع، لجأ الإعلام إلى تأزيم (قضية) السعودة، فبدل أن تكون (مشروعا) نجتمع عليه ونتشارك في تحدياته وفرصة نستفيد منها لنتعلم فنون إدارة الأزمات والتغلب على التحديات، انتهى بنا الوضع إلى حالة استقطاب حادة في قضية السعودة.. حتى أصبح هذا المصطلح مشحونا بدلالات سلبية مزعجة تستحضر طريق الآلام. راقبوا التعاطي الاجتماعي مع هذه القضية/ الأزمة. عندما يحل موضوع السعودة على مجالسنا يكون ضيفا ثقيلا، إذ ترى الناس يتحفزون إلى اتخاذ مواقف أقرب إلى العدائية، وهنا لا ترى حوارا أو نقاشا، بل جدلا يسوق إلى زعل! كل واحد من الناس يتخذ موقفا حادا يجزم صحته ويتفانى مدافعا عنه، وهكذا تأسست بيئة وذهنية للصراع في مجتمعنا حول قضية السعودة. في هذه الاشكالية نحتاج التحول إلى حالة نفسية وفكرية جديدة، نحتاج البحث عن (خيار ثالث) يجمع الأطراف المتصارعة ويوجد لديها ذهنية المشاركة بالحلول، وليس المساهمة في المشكلة. لقد جربنا هذا المسار الواحد لتوسيع قاعدة العمل للسعوديين، ولم ننته إلى حل إيجابي نتفق عليه ونتشارك في تطبيقه بدون إلزام أو إجبار أو إكراه، بل تطبيق عن قناعة ورضا. لدينا أمثلة حية في توفير فرص العمل للسعوديين. بعض الشركات والمؤسسات التي نظرت إلى السعودة من زاوية فكرية واخلاقية ووطنية تختلف عما تطالب به الأنظمة والتعليمات. هؤلاء حققوا نتائج إيجابية بدون قلق أو مشاكل أو توتر، رفعوا نسبة السعوديين العاملين لديهم، واستقطبوا أفضل الكفاءات، لأنهم احدثوا التحول النفسي والفكري للنظر للمشكلة، حولوا التحدي إلى فرصة لإثبات القدرات القيادية والإدارية، ولإثبات أن (التضحية الوطنية)، استثمار وليس تكلفة، قدروا انه استثمار (إنساني وخيري)، أوجدوا حالة من التصالح مع النفس ومع الآخر.. لذا نجحوا. منذ سنوات ونحن نتخذ نفس المسار الواحد. الدولة تصدر القرارات والتعليمات والتهديدات، والقطاع الخاص انقسم إلى فريقين، واحد تعلم فنون المناورة، والآخر قبل مجبرا (غير قانع) المسالمة ودفع التكلفة. المتلاعبون يبدعون في المناورة وينجون من قبضة الأنظمة، والدليل على ذلك اننا مستمرون في إصدار الضوابط الجديدة ل (محاربة السعودة الوهمية!). نستخدم نفس الكلمات: محاربة، مواجهة، تلاعب، تحايل وووو! نفس دائرة الشك والريبة والتوجس. أما المؤسسات والشركات الجادة في ادارة الموارد البشرية، فنقول عنها إنها المُعاقبة وهي(الضحية) التي تدفع التكلفة الحقيقية، أيضا نفس المصطلحات: ضحية، عقاب، تكلفة! دائرة الصراع هي نفسها ما زلنا ندور فيها، والأخطر أن تتسع هذه القضية في زمن تحاصرنا فيه التهديدات والتحديات الكبرى. نحتاج الحكمة لمعالجة هذه المشكلة التي تهدد تماسك الجبهة الداخلية. ربما المدخل لذلك تطوير وتعديل البنود التي تتناول قضايا العمل في عقدنا الاجتماعي. أول تعديل هو في إلغاء مصطلح السعودة من حوارنا الاجتماعي، إلغاؤه من كتاباتنا وخطاباتنا، نمسحه من الذاكرة، ثم نبحث في مشروع جديد يخرجنا من سياسة العصا والجزرة. في الاقتصادات الذكية لا ينفع العصا لمن عصى، نريد (عصا الحكمة). أنا متأكد ومتفائل ان فينا رجلا رشيدا سوف يمسك عصا الحكمة ويجد لنا مسارا جديدا يأخذنا إليه، العمل قضية أمن وطني ولن تحلها المسكنات التي تباع على (الرف) في صيدلية مغبرة على الشارع العام!