من يعرف البلاد الليبية ويتخيل مساحتها الشاسعة وتنوعها الجغرافي يدهش من أمرين، الأول أن هذه البلاد مترامية الأطراف تحوي كما هائلا من الآثار والمواقع التراثية التاريخية المهمة التي وجدت على مر الحضارات المتعاقبة على هذه الأرض، ويعود بعضها إلى أكثر من ألفي سنة حتى وقتنا الحاضر. أما الأمر الآخر فهو أن هذا المخزون التاريخي والحضاري المنتشر على الرقعة الليبية لم يلق الاهتمام والعناية المناسبين على نَحو خاص في فترة حكم نظام العقيد معمر القذافي (1969-2011). المحزن حقا للمراقب المهتم بالشأن التاريخي والتراثي انه وبعد ثورة السابع عشر من فبراير 2011 ونظرًا لتدهور الأوضاع الأمنية وتراجع الأحوال السياسية في البلاد تعرضت كثير من المعالم الأثرية والمقتنيات التراثية النفيسة إضافة إلى عدد من المواقع التاريخية إلى هجمة غير مسبوقة من التدمير والنهب والإزالة والتخريب. ولعل ابرز الحوادث في هذا الجانب الحادثة الشهيرة جدا والتي جرت في شهر مايو 2011م والمعروفة لَدَى الليبيين ب «سرقة كنز بنغازي» وهي في الحقيقة واقعة مؤلمة وملخصها أن أطنانا من التحف والآثار والتماثيل التي كانت محفوظة في خزينة احد البنوك الليبية خوفا عليها من الضياع وحفاظا على أهميتها المادية والتاريخية تبخرت، ولا احد يعرف من استولى عليها ولا إلى أين نقلها. وعلى الرغم من ذلك تردد عن بعض المصادر أن هذا التراث الإنساني الضخم وجد طريقه إلى خارج ليبيا وربما إلى السوق الدولية للآثار والمزادات المعروفة، المفزع في أمر هذه الحادثة أن المسروقات كما تؤكد أطراف ليبية تتكون من أكثر من ستة آلاف قطعة نادرة من رؤوس التماثيل إضافة إلى مجموعات هائلة من الحلي والمجوهرات والقطع النقدية. في ليبيا وبعد الثورة سجل المراقبون ظاهرة سيطرت على بعض جماعات الثوار وحاملي السلاح ممن يسيطرون على إدارة الشأن العام ويساهمون في إعادة صياغة وعي الناس هناك، تلك الظاهرة هي إعلان عداوة الثوار أو قطاع واسع منهم لكل مظاهر التراث والثقافة والإرث التاريخي، وتعرضت بشكل خاص مجموعة كبيرة من المقامات والأضرحة الصوفية للتخريب والتفجير، وتم الاعتداء على مكتبات وإتلاف محتوياتها التي تراكمت عبر حقب تاريخية طويلة. ولعل أشهر الحوادث التي سيظل الناس في ليبيا يتذكرونها إلى وقت طويل حادثة الاعتداء على مسجد ومرقد سيدي الشعاب الدهماني القريب من وسط العاصمة طرابلس، حيث أزيل جزء كبير من الجامع ونقل الضريح الذي كان بداخله الى جهة غير معلومة، كما تم في نفس الفترة تقريبا تفجير ضريح الشيخ عبدالسلام الأسمر الذي عاش في القرن التاسع عشر وتم إحراق المكتبة التابعة للضريح. أعرف أن غيري كُثر يتفقون معي في أن الحرب وغياب الدولة وانهيار مقومات الأمن هي أسباب رئيسية في حدوث هذا الدمار الثقافي، وهذا أمر يمكن تفهمه ولا يمكن قبوله لسبب انه حدث في أماكن شهدت نفس المناخات السياسية والأمنية في أفغانستان والعراق وتونس ومصر. ومع ذلك أكدت بعض المصادر المهتمة بالتراث والثقافة والآثار في عام 2011م وفي أعقاب ثورة الرابع عشر من يناير في تونس أن هناك مؤشرات على وجود شبكات دولية تعمل بين المنطقة العربية وبين آسيا وأوروبا وتسعى للسيطرة على ما يمكن من المخزون الحضاري والتاريخي لهذه المنطقة بما يعني إفراغ هذه الرقعة الجغرافية من ذاكرتها الحضارية. عند ما يجتمع ثالوث الحرب وما تولده من قتل ودمار مع حقيقة الجهل بالقيمة التاريخية للموروث الحضاري ويصاحب ذلك فقر في التراكم المعرفي يعلي من شأن التراث وكذا من شأن المفردة الثقافية المتولدة عنه، ويضاف إلى كل ذلك تآمر إقليمي ودولي متوقع فإننا نكون بحق أمام كارثة ليست بالهينة قد تفوق في بعض الأحيان النتائج التقليدية الناتجة عن الصراعات المسلحة. كنز بنغازي وكنوز ليبيا وآثارها التي ينشغل عنها الناس اليوم في ليبيا تحت تأثير حقائق الحرب والصراع والتنازع هي في الحقيقة تاريخ كامل من السنين ومن ذاكرة المكان والبشر تحاول الحرب مسحه من خارطة وتضاريس البلاد الليبية والليبيين. هي الحرب قاتلها الله، وكما ذكر في وصف لها بأنها «لعبة الحمقى»، الذين يعتقدون أنهم بالحديد والنار والدمار يسعون للمجد، بينما السلام الذي كان بين أيديهم خير من المجد غير المؤكد الذي يسعون له.