على غرار صدمة اعتداءات نيويورك وواشنطن التي كانت منعطفاً تطلب من صناع القرار والباحثين والمعنيين التوقف عند الأدبيات الفقهية والعقدية التي تقف وراء صعود أسهم تنظيم «القاعدة» في العمل الإسلامي الحركي، نُعاين اليوم نفس المعطى، مع صعود أسهم تنظيم «داعش». تم الحسم في أهم أدبيات تنظيم «القاعدة»، وفي الأسماء المسطرة لها، كما صدرت قراءات نقدية، فقهية على الخصوص في بعض وليس كل الأدبيات، من موسوعة «دعوة المقاومة الإسلامية العالمية» التي حرّرها عمر عبدالحكيم (أبو مصعب السوري)، إلى «إدارة التوحش» الذي ألفه أبو بكر ناجي، ولائحة عريضة من الأدبيات، بل وصل الأمر، في المجال التداولي الغربي، إلى صدور مؤلفات ودراسات في الأدبيات الجهادية، ومنها كتاب مرجعي لباحث سويدي يتوقف فقط عند محورية عمر عبدالحكيم في إنتاج الخطاب الإسلامي الحركي في تفريخ «الجهاديات»، بتعبير رضوان السيد. بين أيدينا لائحة من النماذج التي تترجم ما يُشبه تخبط الكتاب والباحثين والإعلاميين في التفاعل النقدي مع أدبيات «الجهاديات» (تنظيم «داعش» نموذجا)، وسوف نتوقف عند نموذجين اثنين، يهم الأول مجالنا التداولي المغربي، ويهم الثاني المجال التداولي المشرقي (السعودي نموذجاً). 1 قامت صحيفة مغربية مؤخراً، بنشر مضامين كتاب «إدارة التوحّش»، تحت عنوان لافت جاء فيه بالحرف: «الصحيفة تنشر القرآن السري لداعش»، مُشيرة إلى أن الكتاب «يدعو إلى بدء حركة الغزو الإسلامي من المنطقة المغاربية ومؤلفه مصري قاتل سابقا في تنظيم القاعدة بأفغانستان»، و«الكتاب يحرض أنصار داعش بالمغرب للرد على ضراوة النظام المصري ضد الإسلاميين عبر اختطاف الديبلوماسيين المصريين بالرباط». ومعلوم أن ما وصفته اليومية ب«القرآن السري» لتنظيم «داعش»، وثيقة قادمة صدرت قبل صعود نجم «داعش»، بل قبل صعود نجم أبو مصعب الزرقاوي. ليس هذا وحسب، ما وُصف ب«القرآن السري»، من الأدبيات «الجهادية» التي تعرض لها بعض الزملاء بالنقد، داخل وخارج الرقعة العربية، كما ترجمته وزارة الدفاع الأمريكية لأهميته القصوى في فهم الظاهرة الإسلامية «الجهادية». 2 تفاعلاً مع خطاب خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، والناقد لصمت وتواضع العدة العقدية لفقهاء وعلماء المؤسسات الدينية، في غضون مطلع آب/ أغسطس الماضي، اعتبر كاتب سعودي أننا «نحتاج إلى رسم خريطة لفقه «داعش» ورؤيتها العقائدية، فهي ما يحتاج إلى تفنيد وتفكيك، فهم يقاتلوننا بناء على تلك العقيدة»، مقترحاً بالتحديد حتمية التوقف النقدي عند ثلاثة أدبيات دون سواها: وثيقة «رفع الالتباس عن ملة من جعله الله إماماً للناس»، لجهيمان بن محمد العتيبي الذي ارتبط اسمه بحادثة سيئة الذكر، ونقصد حادثة اقتحام الحرم المكي سنة 1980؛ وثيقة «ملة إبراهيم» لأبي محمد المقدسي، وهو عمل مرجعي عند أغلب «الجهاديات» بشكل عام؛ وأخيراً، وثيقة «معالم الطائفة المنصورة في بلاد الرافدين» لمؤلف مجهول هو أبو الفضل العراقي، دون الحديث عن لائحة عريضة من الأدبيات الإسلامية «الجهادية» التي تعجّ بها شبكة الإنترنت، ومواقع التواصل الاجتماعي. من وجهة نظر الكاتب، فالوثيقة الثالثة «معالم الطائفة المنصورة في بلاد الرافدين« وإن سبقت «داعش» المعاصرة، فإنها تفسّر سياسة التنظيم في «التكفير والقتل واستباحة دماء الشيعي، والعلماني والليبرالي، ومن يؤمن بالديموقراطية ويمارسها، ومن يقبل بالأحكام الوضعية ويحكم بها، وتكفّر الأحزاب الوطنية والقومية والبعثية والاشتراكية، وتقرر بدعية الجماعات الإسلامية التي تقبل بالانتخابات وأنهم براء منها، وأن الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة مع كل برّ وفاجر وبإمام ومن دون إمام، وتكفّر الحاكم بغير ما أنزل الله أو بدّل في أحكامه، وأن الخروج عليه بالسلاح واجب، وكذلك كفر من ظاهر (تعاون مع) المشركين بأي شكل من الأشكال». بين ثنايا النموذج الأول والثاني، يغيب الحديث أو حتى الإشارة إلى وثيقة مرجعية عند الداعشيين، نتحدث عن وثيقة مرجعية لم نجد لها أثراً في أغلب ما يُنشر عن الظاهرة، وطالما لم نشتغل على نقد هذه الأدبيات، فلنا أن نتوقع مستقبلاً زاهرا للخطاب الإسلامي «الجهادي»، ونحن لا نقزم بالطبع من المحددات السياسية والأمنية وبالتالي الاستراتيجية المرتبطة بالملف، لولا أن الحرب الطويلة مع «الجهاديات» تتطلب معارك فقهية ومعرفية مع الأدبيات «الجهادية»، ويجب الاعتراف في هذا الصدد، أننا مقصرون جميعاً في هذه «الجبهة الحربية».. للمفارقة. من يُريد الخوض في الخطاب «الداعشي»، مطلوب منه قراءة وثيقة تحمل عنوان: «ميراث الأنبياء» وحُرّرت قبيل منعطف اعتداءات نيويورك وواشنطن، وعنوانها الفرعي «سلسلة من الرسائل في بيان توحيد الله عز وجل»، لصاحبها أبو عمر الكويتي، وجاء في مجلد من خمسة أجزاء. مضمون الوثيقة لا يختلف كثيراً عن مضامين الوثائق التي توقف عندها الكاتب السعودي، مع فارق أن هذه الوثيقة بالذات، تكاد تكون «مانفيستو داعش»، ومؤطّرَة للرؤية العقدية لتنظيم يحلم ب«عودة الخلافة على منهاج النبوة بصدق» ويبحث عن «السبيل إلى إقامة الخلافة الراشدة على هدي من الوحي الشريف بدون هوى لجماعة ولا رجال». وعلى غرار تفكيك خطاب تنظيم «القاعدة» الذي تطلب قراءة لائحة من الأدبيات، فإن تفكيك الخطاب «الداعشي» يتطلب زيادة على تفكيك الأدبيات «الجهادية» سالفة الذكر، التوقف خصوصاً عند مضامين «ميراث الأنبياء»، وحتى حدود اللحظة، لا يزال التناول الإعلامي، والبحثي، للوثيقة أقرب إلى مرتبة «أضغاث أحلام». وحتى ننتقل إلى تفعيل هذا النقد وسحب البساط عن الخطاب السلفي الجهادي في شقه «الداعشي»، لا يوجد على حد علمنا من تطرق لهذه الوثيقة، من رموز الساحة المغربية على الأقل ونترك الساحة المشرقية جانباً باستثناء حالة المعتقل حسن الخطاب، والذي لم يتوقف فقط عند نقد الوثيقة، وإنما ذهب إلى عقد مناظرات مع بعض المعتقلين من المحسوبين سابقاً على التيار التكفيري، وأفضت إلى عدول هؤلاء عن مرجعيتهم التكفيرية. بقيت أمامنا إشارة ضرورية بخصوص التفاعل العقدي مع أدبيات تنظيم «داعش»: من نتائج الصدمة «الداعشية» إذا سَلمنا أنها صدمة، ما دامت بعض الأقلام النقدية تعتقد أن الظاهرة الداعشية متوقعة، ومنذ زمان.. أن بعض التيارات الدينية، وجدت نفسها عاجزة عن نقد التيار، وارتأت إما ترويج خطاب المؤامرة، أو خطاب المُحدد السياسي/ السلطوي الذي يقف وراء صعود أسهم الظاهرة، وغيرها من القراءات البعيدة كلياً عن بيت القصيد الداعشي الذي يُحرج بشكل مباشر هذه التيارات: المرجعية العقدية، وبدرجة أقل، المرجعية الفقهية. [وهذه مفارقة صادمة للغاية]. الذي يُقزم من «الإصلاح الأخلاقي»، لأن مدونته العقدية شرعنت ذلك منذ قرون مضت، غير مؤهل لنقد الظاهرة، بله أن يتحدث عن إصلاح الوطن والأمة والإنسانية، وللأسف، لا يتعلق الأمر فقط بأغلب الحركات الإسلامية في الساحة العربية والإسلامية، سواء أكانت حركات دعوية أم سياسية أم «جهادية»، وإنما يمتد إلى أغلب المؤسسات الدينية، التي تتحمل مسؤولية أخلاقية وشرعية في تصاعد أسهم «الجهاديات». ميراث الأنبياء الخاص بالمسلمين هذه المرة، وليس «ميراث الأنبياء» الخاص ب«الجهاديات» يتعرض للاختطاف منذ ما يُناهز قرنا من الزمن، وليس ظاهرة «الجهاديات»، إلى محطة جديدة وصادمة لإحدى أخطر مراحل اختطاف يتحمل فيه العقل الإسلامي الجمعي (عقل العامة والخاصة) مسؤولية تاريخية في تغذيته وعدم التصدي له، ولا حول ولا قوة إلا بالله. مسلحو داعش في الموصل