عن جابر، قال: لما رجَعَتْ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مهاجرة البحر، قال: ألا تحدثونني بأعاجيب ما رأيتم بأرض الحبشة؟ قال فتية منهم: بلى، يا رسول الله، بينا نحن جلوس مرت بنا عجوز من عجائز رهابينهم، تحمل على رأسها قلة من ماء، فمرت بفتى منهم، فجعل إحدى يديه بين كتفيها، ثم دفعها فخرت على ركبتيها، فانكسرت قلتها، فلما ارتفعت التفتت إليه، فقالت: سوف تعلم يا غدر إذا وضع الله الكرسي، وجمع الأولين والآخرين، وتكلمت الأيدي والأرجل، بما كانوا يكسبون، فسوف تعلم كيف أمري وأمرك عنده غدا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: صدقَتْ، صدقَتْ، كيف يقدّس الله أمة لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم؟ إن العدل قيمة مطلقة، ومبدأ راسخ في الفطرة البشرية تفاخر به أي أمة الأمم الأخرى؛ ولهذا صدّق النبي عليه السلام هذه العجوز، ثم أكد أن الأمة التي لا يأخذ الضعيف حقه بلا تردد هي أمة لا يقدسها الله، بل قد يعجل لها الهوان، حيث يقول عليه السلام: (إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك الله أن يعمهم بعقاب منه)، وفي هذا الحديث ينتشل الإسلام الإنسان من الروح السلبية والأنانية البشرية التي تجعل منه كائناً لا يلتفت للأخطاء والمظالم التي تحدث في مجتمعه. إن من أكثر ما يميز الحضارة الإسلامية في عصورها المشرقة أنها لم تكتف بإشاعة قيم العدل والإنصاف في مجتمعاتها، بل صدّرت قيم العدل للمجتمعات غير المسلمة التي دخلها الفتح الإسلامي بخلاف الحضارة الغربية المعاصرة التي قامت على إقامة العدل في مجتمعاتها، وداخل حدودها الجغرافية، ولكنها فشلت فشلاً ذريعاً في تصدير تلك القيم لخارج حدودها، بل كانت مارست أبشع صور الظلم والعدوان على المجتمعات منذ الحربين العالميتين إلى هذه الأيام، وقد ذكر هذا الخلل جملة من المفكرين الغربيين والعرب في حديثهم عن النزعة الإنسانية في الحضارة الغربية، حيث ذكروا بأن قيم العدل في الحضارة الغربية قيم غير مشعة بمعنى أن إشعاعها ينتهي عند حدودها وأراضيها، ولم تدخل الجيوش الغربية بلاداً في الغالب إلا وقد تركتها كومة من الدمار والحطام بعد امتصاص خيراتها وثرواتها.