لاحظ المؤرخ الشهير أرنولد تُوينبي أن البشرية مرت بأكثر من عشرين حضارة، كلها بادت أو في طريق الفناء، وكان العامل في فنائها دائما: "الحروب" و"الطبقات"، وتعجب أرنولد توينبي بقوله: "لقد استيقظنا على حقيقة أن حضارتنا ليست محصنة ضد هذا المصير، ولا أدري كيف يمكن أن نعمى عن هذه الحقيقة" (Civilization on Trial, p 38). لو استحضرنا بعض هذه الحضارات، والتي ربما تتوفر معلومات عنها ومعرفة بها أكثر من غيرها، لانبغي أن نذكر: الحضارة الهيلينية، الحضارة الفرعونية، والحضارة الرومانية، والحضارة الفارسية، والحضارة الحديثة المعاصرة، ولو سأل القارئ نفسه: أي هذه الحضارات هي الحضارة المثالية؟ فإن لم يكن أي منها كذلك، فأيها أقرب إلى المثالية؟ فإن لم تكن، فأيها أقرب إلى التقدم والتحضر؟. من الصعب أن يحكم قارئ على أي حضارة بأي من هذه الأحكام بدون أن يكون لدية "مقياس" Yardstick يقارن ويحكم على أساسه، ولا شك أن الناس سوف يختلفون في تصور هذا المقياس، ولكن لو افترضنا أننا اخترنا المقياس الآتي، بمعنى أن الحضارة المثالية هي التي تتوفر لها المؤهلات الآتية: أن تكون حضارة "إنسانية" في مقاصدها وقيمها وتطبيقاتها وأن تكون حضارة يشترك في وجودها وتجديدها السواد الأعظم من المجتمع، أي أن تكون حضارة "شعبية" وليست حضارة أباطرة أو فراعنة أو قوى سياسية أو عسكرية وأن يكون المجتمع قادرا على "الاستفادة الكاملة من الإمكانيات المتاحة" وأن يكون متطلعا ل"خلق إمكانيات جديدة" و"قادرا على تحقيق ذلك" وأن تتوفر للحضارة "القدرة على مقاومة عوامل الفناء والسقوط" أي أن تكون حضارة "مستمرة ومتجددة". ولو طبقنا هذا المقياس على الحضارات المختلفة لربما كان مقياسا عادلا في المقارنة بينها وفي الحكم عليها. ولو أخذنا آخر هذه الحضارات كمثال، فيمكن القول بأن الحضارة العالمية المعاصرة (الغربية - الأوروأمريكية) يتوفر لها المؤهل (ج) والمؤهل (د) إلى حد كبير، وبصورة نسبية يتوفر لها المؤهل (ب)، ولكنها "غير محصّنة ضد عوامل الفناء" كما أشار أرنولد تُوينبي، كما أنه من الصعب وصفها ب"الإنسانية" رغم ما قدمت للإنسان من تسهيلات مادية في الحياة ومن إعلان شعارات قيمية وأخلاقية، مثل: الحرية، والمساواة، وحقوق الإنسان، والبذل التطوعي بالمال والنفس. وبغض النظر عن نسبية قيم هذه الحضارة الغربية المعاصرة وأخلاقياتها، فإنها لا شك لم تجعل الحياة أسعد، حتى في بني قومها، فالإنسان المعاصر المتأثر بهذه الحضارة هو أقرب إلى "المعيشة الضنك" من "الحياة الطيبة"، وهو أقرب إلى التوتر النفسي من الرضا النفسي أو الشعور بالاكتفاء. إضافة إلى ما تسببت فيه هذه الحضارة من كوارث وفواجع وظلم وسفك لدم الإنسان وإفساد في الأرض، لا يغيب عن البال أن هذه الحضارة أشعلت حربين عالميتين خلال 25 سنة، قتل فيها سبعون مليونٍ من النساء والأطفال وغير المقاتلين وإن قتل مائة ألف شخص في ليلة واحدة، بدافع الحقد والانتقام، ودك مدينة مثل (درسدن) Dresden الألمانية للهدف نفسه من الصعب أن نصنفه بأنه نتيجة تنوير أو عقلانية أو تحضر أو إنسانية، أما ما استهل به هذا القرن من حروب لهذه الحضارة فلا يحتاج إلى تذكير. ولكن ما شأن الحضارة الإسلامية؟ هل ما يسمى الحضارة الإسلامية كيان متحضر وُجِد فعلا وحقيقة؟ أم هو ادعاء؟. لنفرض أنه كيان حقيقي وُجِد فعلا، فهل يمكن أن يقارن في مجال التحضر والتقدم بالحضارات الخمس المشار إليها آنفا، بما فيها الحضارة الغربية المعاصرة؟. لنتقدم قليلا، هل يحتمل -إذا كان يمكن المقارنة حسب المقياس أعلاه- أن يكون هذا الكيان المتحضر أكثر تحضرا وتقدما من الحضارات الخمس بما فيها الحضارة المعاصرة؟. ولنتقدم أيضا، هل يمكن أن يكون هذا الكيان المتحضر أقرب إلى المثالية، طبقا للمقياس المقترح للتحضر؟. وأخيرا، ألا يمكن أن يكون هذا الكيان المتحضر مطابقا للمقياس المفترض، وبالتالي يمكن الحكم له بأنه "الحضارة المثالية"؟. لا نكاد نجد باحثا في الحضارة الإسلامية سواء من المسلمين أم من المحايدين من غير المسلمين إلا ويتكرر على أقلامهم صورٌ منتقاة من تطبيقات الحضارة الإسلامية تشير إلى "مؤسسات": دار الحكمة، أو "شخصيات": الفارابي، والرازي، وابن سيناء، وابن رشد، أو "منشآت": الحمراء، وتاج محل، فهل هذه فعلا "الحضارة الإسلامية" مختزلة؟ وأن الباحثين نقبوا في أكوام التراب فانكشفت لهم هذه "الجواهر الثمينة" من صور التحضر والتقدم؟ بل هل هي أبرز ما في تطبيقات الحضارة الإسلامية؟ بل هل هي فعلا صور بارزة من تطبيقات الحضارة الإسلامية؟. نلاحظ أن الباحثين للتاريخ في قراءتهم للحضارة الإسلامية لا يهتمون بصورة كاملة لنظام متكامل ومنسجم، فيردد الباحثون دائما قصة عمر بن الخطاب مع العجوز اليهودي حينما قال له: "ما أنصفناك عندما أخذنا منك الجزية شابا قادرا، ونضيعك في حالة عجزك" وأمر له. ولا يخفون فرحهم بهذه القصة كدليل على "تسامح" الإسلام، ولا ينتبهون إلى أن كتب التراث حفظت لنا نماذج من عهود المسلمين لأهل الذمة؛ مثل العهد الذي كتبه خالد بن الوليد لأهل العراق حيث جاء هذا النص: "وجعلت لهم أيما شيخ ضعف عن العمل أو أصابته آفة من الآفات أو كان غنيا فافتقر...وصار أهل دينه يتصدقون عليه، طُرِحَت جزيته وعِيل من بيت المال وعياله، ما أقاموا بدار الهجرة ودار الإسلام، فإن خرجوا إلى غير دار الهجرة ودار الإسلام فليس على المسلمين النفقة عليهم" (أبو يوسف في الخراج، ص 144). بل إن عمر بن عبدالعزيز أصدر أمرًا عامًا يطبق على كل أهل الذمة في دار الإسلام: "وأنظر من قِبَلك من أهل الذمة فمن كبرت سنه وضعفت قوته وولت عنه المكاسب فأجر عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه" (ابن سلّام في الأموال ص 45-46). هذه "النماذج" تقرر التزام المسلمين بأن يكفلوا رفع الجزية عن أهل الذمة في حال عجزهم أو كبر سنهم والنفقة عليهم من بيت مال المسلمين، وحُفظت هذه النماذج في "كتب الفقه" ككتاب الخراج لأبي يوسف أو الأموال لابن سلام (اللذين كتبا في القرن الثاني الهجري). وقد ذَكرتُ هذه النماذج للاستدلال بها في العلاقة بين المسلمين وأهل الذمة ما يدل على أنها شروط "نمطيه" وأن قصة عمر بن الخطاب إذا صحت فليست إلا مجرد مثال وتطبيق ل"نظام متبع" ظل الفقهاء المسلمون يعترفون به "كجزء من المبادئ الإسلامية". وهذه النماذج من العهود الإسلامية تدل على أنها "نظام عام" وحكم من "أحكام الشريعة" طبقه المسلمون، وإنّ حفظ مثل هذه النصوص في كتب الفقه تأكيد على أنها "نظام عام" و"أحكام شرعية" وليست مجرد حالات عينية مرتبطة بشخص معين أو ظرف زمني محدد. وبالمثل يكرر الباحثون قصة المرأة التي عارضت رأي عمر بن الخطاب في مهور النساء كدليل على إمكانية "معارضة الشعب للحكومة"، وعلى "حرية الرأي"، ويغفلون عن أن أمرا مهما وحاسما ومصيريا، حدث في عهد عمر بن الخطاب فانقسم الصحابة فيه إلى قسمين: عمر بن الخطاب ومن تبعه، وبلال بن أبي رباح ومن تبعه، واحتدم الجدل بين الخليفة وأصحابه وحركة المعارضة، وكانت المعارضة من القوة بحيث أُثِرَ عن عمر أنه قال: "اللهم اكفني بلال وأصحابه" وانتصر رأي عمر، ولا يذكر لنا التاريخ آلية هذا الانتصار، ولكن لا يبدو أن هناك سندا لهذا الانتصار إلا وجود أغلبية الأصوات، وفيه تجسد بُعْد سياسي جوهري، حيث برز أن طاعة الحاكم ليست "مطلقة" إنما هي في "المعروف" وأن أمره قابل للمراجعة، وأن الأمر "شورى بينهم". لقد تقرر، نتيجة هذا الانتصار، بعد آخر مهم تمثل في الأخذ بسياسة عامة صارت نظاما اقتصاديا أستمر طوال القرون، وبموجبه أمكن التوفيق بين "الاتجاه الجماعي" في الاقتصاد حيث تملكت الدولة بموجبه حوالي 95% من رأس المال المنتج (الأرض) في العالم الإسلامي، و"الاتجاه الفردي" حيث حافظ على حافز الربح، وبالتالي جدوى الإنتاج من دون الإخلال بمبادئ الاقتصاد الإسلامي: 1-أن يكون المال قياما للناس، 2- وألا يكون دولة بين الأغنياء، 3- وأن يمتنع فيه الظلم في التعامل، 4- وأن يضمن العدالة الاجتماعية. ولنستحضر الآن أن البشرية خلال المائتي سنة الأخيرة، أي من عهد آدم سميث، عجزت حتى الآن عن التوفيق بين الاتجاه الجماعي والاتجاه الفردي ضمن سياسة تضمن للاقتصاد نموه وللعدالة أن توفر للجميع. إلى القارئ الكريم بعض المعلومات التي وردت بأقلام مفكرين توفرت لديهم المعرفة الواسعة بالحضارة الإسلامية وكتبوا بحيادية، ربما تعين القارئ على الإجابة عن الأسئلة الواردة في أول هذا الفصل: قال محمد أسد في كتابة الإسلام على مفترق الطرق Islam at the Crossroads (1983. pp 33-34: "فلا يوجد -من أي جهة- ما يجمع بين دولة المسلمين الأولى وبين الإمبراطورية الرومانية، عدا حقيقةً أن كلتيهما امتدت لتشمل بلادًا ومناطق واسعة وشعوبًا مختلفة، لأنها طيلة وجود كل منهما كانتا مدفوعتين بدوافع مختلفة كل الاختلاف، وكان لكل منهما غاية مختلفة تمامًا تسعى لتحقيقها. وهما مختلفتان أيضًا من حيث سرعة أو بطء النمو، فبينما احتاجت الإمبراطورية الرومانية إلى ألف سنة تقريبًا لتبلغ أقصى مداها الجغرافي والسياسي؛ لم تحتج دولة المسلمين الأولى إلى أكثر من ثمانين سنة لتبلغ أقصى نموها، وفيما يتعلق بضعف كل منهما فإن الفرق بينهما أكثر وضوحًا؛ فإن سقوط الإمبراطورية الرومانية الذي خُتم بهجرة الهون والقوط قد تم خلال قرن واحد، وكان سقوطًا تامًا بحيث لم يبقَ من أثر لحضارتها غير الأعمال الأدبية والهندسية. والإمبراطورية البيزنطية، التي يفترض أنها الوارثة المباشرة لروما، إنما ورثتها باستمرار حكمها لبعض المناطق التي كانت تحكمها روما، ولم يكن لبنيتها الاجتماعية ونظامها السياسي علاقة تذكر بالدولة الرومانية. أما دولة المسلمين، كما تجسدت بالخلافة، فقد عانت -دون شك- من عدة تقلبات وتغيرات في السلالة الحاكمة خلال مدة وجودها الطويلة، ولكن بنيتها بقيت ثابتة لم تتغير، وفيما يتعلق بالهجمات الخارجية عليها - بما في ذلك الغزو المغولي الذي كان أكثر عنفًا مما لاقته الدولة الرومانية على أيدي الهون والقوط- فلم تستطع هذه الهجمات هز النظام الاجتماعي والوجود السياسي المستمر لدولة المسلمين، ولو أنها -بلا شك- أسهمت في إحداث الضعف الاقتصادي والثقافي في العصور المتأخرة. ومقارنةً بالقرن الواحد الذي تم فيه سقوط الدولة الرومانية؛ فقد احتاج سقوط الخلافة الإسلامية إلى ألف سنة تقريبًا من التآكل التدريجي حتى تم سقوطها السياسي ممثلًا بإلغاء الخلافة العثمانية، وما تبع ذلك من انحلال اجتماعي نشهد مظاهره الآن. وهناك فرق آخر بين الإمبراطوريتين، فعلى حين لم يكن في الإمبراطورية الإسلامية أمة مفضلة على أخرى، وكانت القوة في الدولة مسخرة لنشر عقيدة يعدها حاملو شعلتها: "الحقيقة الدينية السامية"، فإن الفكرة التي تأسست عليها الدولة الرومانية كانت قوة الغزو لاستغلال أمم أخرى لصالح "الوطن الأم وحده"، ولتحقيق حياة أفضل ل "جماعة مفضلة". لم يكن للعنف حدٌّ يقف عنده، ولا للظالم رادع، وكان (العدل الروماني المشهور) للرومان فقط، وكان واضحًا أن هذا الاتجاه إنما يقوم على أساس فكرة مادية صرفة عن الحياة والحضارة؛ مادية مصقولة -حقيقة- بالفكر والذوق الجمالي، ولكنها مع ذلك أجنبية عن القيم الدينية". وكتب المؤرخ الروائي الإنجليزي المشهور H. G. Wells في كتابه (Outlines of The History 1920. p 326): "إن أعظم ما اجتذب قلوب غالبية الناس عندما جاء محمد بدين الإسلام، هو فكرة الإله (الله)، الذي يعني بالوعي الذي فطرت عليه قلوبهم... وبقبولهم المخلص للإسلام ومنهاجه انفتح أمامهم- في عالم كان مملوءًا بعدم اليقين والزيف والانقسامات المتعصبة - باب واسع للأخوة البشرية العظيمة والمتنامية وإلى فردوس لا يحتل فيه القديسون والقساوسة والملوك المكان الأعلى وإنما تتحقق فيه المساواة بين أتباع الدين، بدون رمزية غامضة، أو طقوس ظلامية، أو ترانيم قسيسين، قدم محمد تلك النظم الأخلاقية إلى قلوب البشرية، الإسلام أوجد مجتمعًا تحرر من القسوة والاضطهاد الاجتماعي إلى درجة لم يبلغها أي مجتمع من قبل". ويقول: "إن الإسلام انتشر وسَاد لأنه قدم للإنسان أفضل نظام سياسي واجتماعي يمكن أن يمنحه الزمان، هذا النظام الذي يمثل أوسع وأنقى وأنظف فكرة سياسية أمكن حتى الآن أن تطبق عملًا على الأرض". كما ذكر ول ديورانت في كتاب قصة الحضارة (الصفحات131- 133 من ترجمة زكي نجيب محمود، طبعة دار الجيل، تاريخ النشر 1990): "وكان اليهود في بلاد الشرق الأدنى قد رحبوا بالعرب الذين حرروهم من ظلم حكامهم السابقين... وأصبحوا يتمتعون بكامل الحرية في حياتهم وممارسة شعائر دينهم... وأثْروا كثيرًا في ظل الإسلام في آسية ومصر وإسبانيا كما لم يُثروا من قبل تحت حكم المسيحيين، وكان المسيحيون في بلاد آسية الغربية -خارج حدود الجزيرة العربية- يمارسون شعائر دينهم بكامل حريتهم، ويحدثنا المؤرخون أنه كان في بلاد الإسلام في عصر المأمون أحد عشر ألف كنيسة كما كان فيها عدد كبير من معابد اليهود ومعابد النار وكان المسيحيون أحرارًا في الاحتفال بأعيادهم علنًا والحجاج والمسيحيون يأتون أفواجًا آمنين لزيارة الأضرحة المسيحية في فلسطين... وأصبح المسيحيون الخارجون على كنيسة الدولة البيزنطية، الذين كانوا يلقون صورًا من الاضطهاد على يد بطاركة القسطنطينية وأورشليم والإسكندرية وإنطاكية، أصبح هؤلاء الآن (بعد الفتح الإسلامي) أحرارًا آمنين تحت حكم المسلمين الذين لم يكونوا يجدون لنقاشهم ومنازعاتهم معنى يفهمونه، ولقد ذهب المسلمون في حماية المسيحيين إلى أبعد من هذا إذ عين والي أنطاكية في القرن التاسع الميلادي حرسًا خاصًا ليمنع الطوائف المسيحية المختلفة من أن يقتل بعضها بعضًا، وانتشرت أديرة الرهبان وأعمالهم في الزراعة وفي إصلاح الأراضي البور... وبلغت العلاقة بين الدينين في وقت من الأوقات درجة من المودة تبيح للمسيحيين الذين يضعون الصلبان على صدورهم أن يقصدوا المساجد ويتحدثوا فيها مع أصدقائهم المسلمين وكانت طوائف الموظفين الرسميين في البلاد الإسلامية تضم فئات من المسيحيين وقد بلغ عدد الذين رقوا منهم إلى المناصب العليا في الدولة من الكثرة إلى درجة أثارت شكوى المسلمين في بعض العهود... وعلى الرغم من خطة التسامح الديني التي كان ينتهجها المسلمون الأولون أو بسبب هذه الخطة اعتنق الدين الجديد مُعظم المسيحيين وجميع الزرادشتيين والوثنيين إلا عددًا قليلًا منهم... واتخذ غير المسلمين من اللغة العربية لسانًا لهم ولبسوا الثياب العربية ثم انتهى الأمر باتباعهم شريعة القرآن واعتناق الإسلام، وحيث عجزت (الهيلينية) أن تثبت قواعدها بعد سيادة دامت ألف عام، وحيث تركت الجيوش الرومانية الآلهة الوطنية ولم تغلبها على أمرها، وفي البلاد التي نشأت فيها مذاهب مسيحية خارجة على مذهب الدولة البيزنطية الرسمي، في هذه الأقاليم كلها انتشرت العقائد والعادات الإسلامية... وآمن السكان بالدين الجديد وأخلصوا له، واستمسكوا بأصوله إخلاصًا واستمساكًا أنساهم بعد وقت قصير آلهتهم القديمة، واستحوذ الدين الإسلامي على قلوب مئات الشعوب في البلاد الممتدة من الصين وإندونيسيا والهند.. إلى مراكش والأندلس وتملّك خيالهم وسيطر على أخلاقهم وصاغ حياتهم، وبعث فيهم آمالًا تخفف عنهم بؤس الحياة ومتاعبها وأوحى إليهم العزة والأنفة.. وظل هذا الدين يوحد بينهم ويؤلف قلوبهم مهما يكن بينهم من الاختلافات والفروق السياسية". وكتب بودلي في كتابه (Edit. 1954. pp. 136 The Messenger): "لم يدمر المسلمون البلدان التي غزوها كما فعل المحاربون من أصحاب الديانات الأخرى، حيثما وصل المسلمون خلفوا شيئا أفضل مما كان في السابق، كانوا مثل السحاب المنهمر، أخصب الأرض التي خَلّف فيها الآخرون الجدب والخراب". مهما كانت ثقتنا في أصحاب هذه النصوص فيما يتعلق بمعرفتهم عن الحضارة الإسلامية، وحيادهم في الحكم، فلا يمكن اعتبارها في ذاتها أدله قاطعة على مضمونها، إن الذي يعتبر دليلا قاطعا رؤيتنا للواقع التاريخي كما هو، فهل نتمكن الآن من رؤية الواقع الذي سارت فيه الحضارة؟. * الدوافع والموجهات والغايات: كما أن الحضارة الحديثة في دوافعها تأثرت بالحضارة الرومانية، حيث إنجازات هذه الحضارة المعرفية والجمالية وروحها التي تجسدت في الاستعلاء والتقدم المادي، والثورة على الكنيسة، والانتفاع بما وصل إليه المسلمون من ثروة معرفية في الفلسفة والاجتماع والعلوم الطبيعية، والرغبة الملحة على تحقيق التقدم بأن يقوم الإنسان وحده، وأن توجد كل الإمكانيات الممكنة لتسهيل حياة الإنسان ورفاهيته على اعتقاد "بتفوق الجنس الأبيض الأوروبي" و"الاستعلاء" بذلك. فإن الحضارة الإسلامية لها دوافعها وموجهاتها وغاياتها، لا يظهر أن أحد ينكر أثر الدين أو التأثير الإسلامي على الحضارة الإسلامية فالقرآن هو المحرك الأول والرئيس والباعث لهذه الحضارة وهو موجه لسلوك المسلمين لاسيما في العصور الأولى للحضارة الإسلامية وهو الذي يرسم الغاية من الحياة ومن العمل بها لكل مسلم. في كل الحضارات تقريبا كان للدين دور في وجودها، ولكن بالنسبة للحضارة الاسلامية فقد كان الإسلام العامل الرئيس في دوافع الحضارة وموجهاتها حتى ليكاد يطغى على العوامل الأخرى، وإن كان لهذه العوامل أيضا دورها مثل: استفادة المسلمين من الثقافات والحضارات الأخرى (تدوين الدواوين مثلًا) أو أهم من ذلك تأثير التقاليد والعادات والمعارف التي ورثتها الشعوب الإسلامية عن ماضيها. ويتجسد أثر الإسلام المشار إليه في بناء الحضارة الإسلامية وتسييرها في ما يلي: الإسلام على خلاف الأديان والثقافات الأخرى يتميز ببقاء "نسخته الأصلية" دائمًا ملهمة للمصلحين والمجددين في تاريخ الإسلام الذين كانوا يحاولون مقاومة الانحرافات عن النسخة الأصلية، كالانحرافات التي وجدت في الأديان الأخرى. إن الإسلام على خلاف الأديان الأخرى بقيت شخصية النبي الذي جاء به "معروفة بالتفاصيل"، حتى أن المثقف المسلم يعرف بها رسوله محمد صلى الله عليه وسلم في حياته العامة أكثر مما يعرف عن جاره، وعن حياته الخاصة أكثر مما يعرف عن أبيه و أمه، أما الأديان الأخرى فلا يوجد لدى المنتسبين إليها في الغالب اقتناع مبنيٌ على وثائق تاريخية معتمدة بأن النبي أو مؤسس الدين قد وجد أصلًا في الحياة، أي بصفته شخصية تاريخية. إن الإسلام يعتمد على "أساس أخلاقي" يُترجم عنه بالمصطلح الإسلامي "التقوى" هذا المصطلح الذي ذُكر بمشتقاته في أكثر من 200 موضع من القرآن وورد بمعناه في مواضع كثيرة أخرى من القرآن، ويعني هذا المصطلح درجة من الحساسية الخلقية حيث يشعر المسلم بأن الله يراقبه في كل حركاته وسكناته وأنه سوف يحاسبه عن أعماله، وإن الصلاة والصوم كانتا وسيلتين فاعلتين لتعزيز هذه القيمة. إن الإسلام ليس فحسب دينًا بالمعنى المعروف من كلمة Religion بل هو "منهج للحياة" ينظم في حياة المسلم الناحية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، على خلاف الأديان الأخرى التي تترك "ما لله لله وما لقيصر لقيصر". من مظاهر ما ذكر في الفقرة السابقة اختلاف معنى "العبادة" في الإسلام عن العبادة في الأديان الأخرى، فالعبادة في الإسلام لا تقتصر على الطقوس وشكليات العبادات الأخرى وإنما تمتد إلى كل عمل يعمله الإنسان حينما يعمله احتسابًا وإرضاء الله، ومن أفراد هذه العبادة اعتبار فروض الكفاية على المجتمع، التي إذا قام بها من يكفي سقط الإثم عن الباقين أما إذا لم يؤت بها على الوجه الكافي فيأثم المجتمع بأكمله، وتشمل كل ما يحتاجه الإنسان لتحصيل نفع أو دفع ضر: كتعلم الطب أو كوجود الأطباء الكافين للمجتمع مثلًا. اعتبار الإسلام "العدل والصدق" قيمة مطلقة، غير خاضعة لنسبية التطبيق، بالنسبة للقريب والبعيد حتى المسالم والمحارب. المساحة الواسعة التي أعطاها القرآن للحث على إعْمال العقل والتفكير وطلب العلم والجد في الوصول للحقيقة، وليس أدل على ذلك من أن ألفاظ العقل والتفكير والعلم ومشتقاتها وردت في القرآن أكثر من ثلاثمائة وخمسين موضعا، بالإضافة إلى المساحة الكبيرة الأخرى التي تشمل مرادفات هذه الألفاظ والمعاني الدالة عليها. ولإيضاح مدى أثر هذه الخصائص السبع في وجود الحضارة الإسلامية نأخذ مثلًا صفة "العدل والصدق": فحين اشتبك المسلمون أول مرة مع الإمبراطوريتين الرومانية والفارسية لم يكن ذلك عن اختيار من المسلمين كما تدل قراءة التاريخ، ولو كان ذلك الاختيار منهم لما اشتبكوا في حرب في جبهتين في وقت واحد وكان لديهم من الحكمة السياسية أن يحاربوا في جهة واحدة، وبذلك تتحقق كل الأغراض والغايات التي يفترضها عادة المؤرخون كدافع لحروب الفتح الإسلامي. لقد طبقوا بصرامة في حربهم مبدأ "الصدق والعدل" وقامت علاقتهم في الحرب والسلم مع الآخرين على هذه المبدأ ولم يمنعهم ذلك أنهم كانوا يطبقون ذلك من جانبهم فقط (أي من جانب واحد حتى وإن لم يلتزم الطرف الآخر بذلك) فأوجدوا مثالًا قلما طبقه غيرهم بالنسبة لتعاملهم مع البلاد التي تغلبوا عليها، إذ أبقوا للشعوب حياتهم بدون أن يجبروهم على تغيير شيء منها بما يكرهون بل التزموا بحمايتهم من عدوان الغير، وأعطوهم الحرية الكاملة في العبادة وحماية المعابد، كما أعطوهم الحق أن يكون لهم قوانينهم الخاصة وقضاؤهم الخاص والاحتفاظ بلغتهم وثقافتهم وتنشئة أبنائهم عليها، بل واستثنوهم من الخضوع للقانون الجنائي العام، بمعيار أن كل عمل لا يعتبر غير أخلاقي في دينهم وثقافتهم فلا يعتبر جريمة في حقهم إذا عملوه، وإن كان جريمة في القانون الجنائي العام للمسلمين، ولم يفرضوا عليهم إلا جزية بمبلغ عادل تؤخذ فقط من حملة السلاح مقابل إعفائهم من الخدمة العسكرية -ولو اشترك القادر منهم مع المسلمين في حماية الوطن أعفي من الجزية- ولم تفرض الجزية على غير حملة السلاح سواء النساء أو العاجزين أو الرهبان. وكان لهذه السياسة الأثر الفاعل على الحضارة الإسلامية، إذ إنها مكنت المسلمين من سرعة مد سلطانهم حتى شمل جزءًا كبيرًا من العالم القديم، إذ كانت هذه السياسة بغزوها للعقول والقلوب تجعل شعوب البلاد المفتوحة ترى فيهم "منقذًا" وليس "عدوًا" وربما فَسّر هذا اللغز الذي لايزال يُحيّر المؤرخين، وهو سرعة امتداد سلطان المسلمين. وقد يكون ما هو أكثر موجب للحيرة سرعة تحول الشعوب المفتوحة للإسلام، في الحقيقة أن الإسلام انتشر ليس بسبب الفتح العسكري، كما هي الفكرة الشائعة، إنما كان الإسلام بقيمه هو الذي مكن للانتصار السياسي أن يتم بهذه الصورة التي لم يوجد لها مثال في التاريخ. ومن هنا يتبين أثر هذه الخاصية الفعالة في وجود الحضارة وفي مسيرتها وكان من بين أفراد مبدأ "العدل والصدق" اعتبار القوة الملزمة للعقود، في كل العصور، المبدأ الذي يبني عليه المسلمون العلاقات الدولية بينهم وبين غيرهم. لقد كان لكل هذه الصفات دور مهم جدًا في تشكيل دوافع الحضارة الإسلامية وتسييرها والوعي لدى المسلم بغايتها، لاشك أنه وجد في تاريخ الإسلام وفي أقطاره المختلفة انحرافات عاقت التأثير الكامل لهذه الصفات ولكنها لم تنل من الإسلام بوصفه عاملًا رئيسًا في تشكيل دوافع الحضارة الإسلامية وإجراءاتها والوعي بغايتها. وقد نتج عن ذلك تميز الحضارة الإسلامية عن الحضارات الأخرى بثلاث صفات رئيسية، بالإضافة إلى مشاركة الحضارة الإسلامية بعض الحضارات في تحقق صفة: "الانتفاع الأكمل بالإمكانيات المتاحة" وصفة "الاستشراف لإيجاد إمكانيات جديدة"، هذه الصفات الرئيسية الإضافية هي: الأولى: أن الحضارة الإسلامية، بقيامها على أساس البذل التطوعي من الأفراد تحت تأثير الإسلام ومعاني "التقوى والعبادة"، كانت "شعبية" على خلاف الحضارات الأخرى التي أنشأها الفراعنة أو الأباطرة أو النخب في المجتمع أو القوى السياسية والعسكرية، ومن أبرز صور البذل التطوعي الشعبي: "الوقف". ولقد واجه نظام الوقف، الذي اعُتبرت نية البرّ فيه مكونًا أساسيًا من مكوناته، واجه كل احتياجات المجتمع المسلم في كل زمان وفي كل مكان، كوجود المكتبات والمدارس والمستشفيات والطرق والكباري وكري الأنهار، بل كل تفاصيل احتياجات المجتمع، فكسبت الحضارة الإسلامية وصفًا تميزت به عن الحضارات الأخرى أنها "حضارة شعبية". الثانية: نظرًا لقيام هذه الحضارة على أساس نظام الوقف، الذي إنما يوجد تحت دافع قصد البرّ من الواقف، كسبت الحضارة الإسلامية صفة مميزة أخرى أنها "حضارة إنسانية"، وهاتان الصفتان المميزتان أنتجتا في الواقع العملي صفة مميزة ثالثة إضافية. الثالثة: وهي صفة "التجدد والاستمرار" و"الاستعصاء على عوامل الهدم" التي لم تستطع أن تقاومها الحضارات الأخرى، لقد استمرت الحضارة الإسلامية تؤدي دورها قرابة أربعة عشر قرنًا بالرغم من التقلبات السياسية والحروب المستأصلة مثل غزو التتار والصليبيين والكوارث الطبيعية والأوبئة والمجاعات، فهذه الصفات الثلاث: "شعبية"، "إنسانية"، "قادرة على مقاومة عوامل الهدم والفناء" صفات ظاهرة من الواقع ولا تحتاج إلى تدليل منطقي أو إخباري. الخلاصة: في ضوء ما سبق، نرى من الواقع أن الحضارة الإسلامية، سيما في أول مراحل نشؤها تميزت بالقدرة على "الانتفاع الأكمل بالإمكانيات المتاحة"، فمن أول ما بدأ وجود هذه الحضارة أظهرت انفتاحًا، فبالإضافة إلى الاستفادة من الإمكانيات الموجودة لدى المسلمين، فقد نشطوا في الاقتباس من الإمكانيات الموجودة لدى الآخرين، وقد أشرنا في السابق إلى اقتباس المسلمين في عهد عمر بن الخطاب تدوين الدواوين كمثال لانفتاحهم على الآخر واقتباس كل ما هو نافع، وأبدوا قدرة على التفكير وعلى الاستشراف "لإيجاد إمكانيات جديدة"، على سبيل المثال: اختراعهم نظام البريد، حينما وجه عمر بن الخطاب عماله إلى الأقطار التي صارت تمتد وتتباعد عن مركز الإدارة بألا تغيب شمس يوم إلا وعنده خبر منهم، فأوجد نظام البريد حيث يصل الخبر بأقصى سرعة ممكنة -وكانت في ذلك الوقت هي سرعة الخيل- من مصدر الخبر وحتى منتهاه. وفيما عدا الحضارة الحديثة لا توجد حضارة شارك أفراد المجتمع في بنائها وتسييرها، على سبيل المثال: الباذلين المتطوعين، كالحضارة الإسلامية فهي "حضارة شعبية" كما أوضحنا وهي أيضًا "إنسانية" تتميز بهذه الصفات عن الحضارات الأخرى، وأثبت الواقع "مناعتها وقدرتها على مقاومة عوامل الهدم والفناء"، وحين يقارن القارئ بين ما ذكرناه من متطلبات نموذج الحضارة المثالية الذي شرحناه في أول المقال سوف يلاحظ بلا شك مدى قرب الحضارة الإسلامية من الوفاء بمتطلبات ومؤهلات النموذج المثالي، فإن لم يقتنع القارئ بذلك فعلى الأقل من المتوقع أن يقتنع بأن الحضارة الإسلامية أكبر من أن تختزل في مثال دار الحكمة أو الشخصيات الباحثة في الفلسفة وبحوث الطبيعة أو في الحمراء وتاج محل.