دورة الحياة تسير بشكلها الطبيعي التلقائي، وعندما تتوقف لأي سبب من الأسباب أو حين يأخذ المسار فيها اتجاهاً عكسياً في إطار الدائرة يصبح -بالتأكيد- أن هناك خطأً ما. وهذه الدورة الحياتية المستمرة تؤكد كذلك أن من المستحيل عودة عقارب الساعة إلى الوراء، ولذلك فإن لكل مرحلة من مراحل حياة الإنسان استحقاقاتها وطبيعتها وحتى جمالها إذا ما استثمرها الإنسان الاستثمار الصحيح وخطط لها وعاشها بتفاصيلها الجميلة، والمؤلم أن التشويش الذي نلحظه يطرأ في مراحل الحياة المتعاقبة وخاصة مرحلتي الشباب والشيخوخة ما كانت لتحدث لولا العشوائية في نظرتنا للأمور المستقبلية وأحيانا عدستنا العبثية في تعاملنا مع هذه المرحلة أو تلك، فيختلط الحابل بالنابل ويحدث التداخل والتماس الذي يفضي إلى حيز واسع ومساحة شاسعة من الارتباك. ومن صور هذا الارتباك والتداخل حين يصل الإنسان إلى مرحلة التقاعد هو وزوجته، غالباً في هذه المرحلة يكون الزوجان في مرحلة بداية الشيخوخة ويصبحان في البيت لوحدهما بعد استقلال وزواج أبنائهم وبناتهم. في هذه المرحلة بعد أن قاما بتأدية رسالتهما على أكمل وجه وأديا مسئوليتهما تجاه أبنائهما وبناتهما بأفضل صورة يكونان أحوج ما يكونان إلى الراحة والهدوء ولا شك أن هذه الفترة العمرية يحتاج فيها هذان الزوجان / الجدان إلى رعاية صحية استثنائية، وفي المقابل يتوجب على الأبناء والبنات أن يتفهموا طبيعة المرحلة التي يمر بها آباؤهم وأمهاتهم حين يبلغان هذا العمر. ولا شك أن من أوجه البر بالوالدين في هذه المرحلة ألا يقحم الأبناء آباءهم في مشاكلهم اليومية ويثقلوا عليهم بهمومهم الحياتية، فمقدار التحمل لدى الأجداد في هذه السن يصبح في الحد الأدنى وليت كل ابن وابنة أن يهتموا ويراعوا آباءهم ويتفهموا هذه المرحلة العمرية بكثير من الوعي والدراية والاهتمام. ولعقوق الأبناء لآبائهم وأمهاتهم الأجداد صور سأستعرض منها ما تسعفني به الذاكرة مما سمعت وقرأت، فماذا يعني حين تنقل الابنة وهي متزوجة كل مشكلة صغيرة كانت أو كبيرة لأمها أو أبيها في الوقت الذي كان بإمكانها أن تحل مشكلاتها مع زوجها وفي إطار بيتها بطريقة أفضل، ربما تعلل إحداهن أن الأم هي الحضن الدافئ والملجأ الآمن للابنة حين تضيق بها الدنيا وتحتاج إلى من تفضفض إليه كبتها الداخلي وتنفس الضغوط التي تمر بها، ولكن هي من حيث لا تعلم تكون قد نقلت هذا الضغط الرهيب الذي تعيشه إلى صدر أمها المنهك وربما لا تدري أن الأم سيتضاعف لديها الهم ويزداد وتبدأ بالتفكير بحياة ابنتها التعيسة وستعيش في حالة من الحزن الذي لا يمكن أن تفصح به لأحد، وتتملكني الدهشة هنا: فالابنة/ الزوجة نفضت أعقاب رماد جمرتها في قلب أمها وربما ارتاحت نسبيا ولكنها لم تسأل نفسها: ما الذي يمكن أن تفعله هذه الجمرة من اشتعال في قلب أمها ذلك الاحتراق الذي يجعل الأم تغرق في حفرة لا قرار لها من الظلمة والسواد وتخيلوا كيف سيكون قلب أم ضعيف ومنهك من حياة طويلة مسكونة بشقاء السنين حين تحمله وتزيده بعضهن بهذا الهم الثقيل. وصورة أخرى: كما أسلفت فالآباء / الأجداد يحتاجون كثيراً للراحة والهدوء في هذه الفترة، ولكن وربما بسبب نشوء ظاهرة استجدت للظروف الوظيفية للبنات المتزوجات حين يتم تعيينهن خارج مناطقهن فيذهبن للعمل في المناطق والمدن البعيدة فيقمن بترك أبنائهن وبناتهن الرضع والصغار عند أمهاتهن ولكم أن تتخيلوا كيف لجد وجدة بلغا السبعين أو يزيد تضطرهم الظروف فيقومون بتربية أحفادهم الصغار فيعودون خمسين سنة إلى الوراء، هنا يحدث الارتباك في حياة الأجداد الذي ينشأ من الضرورة والمجاملة وسبب آخر يتعلق بعدم تفهم تلك الابنة المتزوجة لطبيعة المرحلة التي يمر بها والداها. كم من التعب والشقاء يزيله هؤلاء الأبناء والبنات عن كواهلهم ليرموا به على ظهور آبائهم وأمهاتهم (الأجداد) الذين احدودبت ظهورهم وبلغوا من العمر عتياً. أرجوكم.. توقفوا عن هذا العقوق ورحمة بآبائكم وأمهاتكم فما جزاء الإحسان إلا الإحسان. *متخصص تربوي