أهم ما في التقوى أمران: إرادةٌ قوية تغلب الهوى وتحكمه، ومراقبةٌ لله تقود هذه الإرادة نحو مرضاة الله، فالإرادة وحدها دون أن تكون وفق مرضاة الله، قد تتحقق فيمن نجحوا نجاحا دنيويا وهم بعيدون عن مرضاة الله. فالنجاح في العلم أو الطب أو الهندسة أو الإدارة أو الاقتصاد أو الجيش يحتاج لإرادة قوية تغلب هوى الكسل والعجز والدعة والاسترخاء. وكثير من دول الغرب اليوم انتصرت إرادتهم وتفوقوا على من سواهم، لكنّ ذلك وحده لم يجعلهم من الأتقياء. فالتقوى تحتاج لانتصار الإرادة، وأن تكون هذه الإرادة تابعة لما يحبه الله ويرضاه، وأن تحضر المراقبة لله حبا ورَغَبا ورَهَبا، فإذا اكتمل هذان الركنان فقد اكتملت التقوى لصاحبها. الصيام كتبه الله علينا من أجل التقوى: «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ « [سورة البقرة : 183]. ولِأهميته وبالغِ تأثيره كان من الفرائض الثابتة في الشرائع السماوية : «كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ» [سورة البقرة : 183]. في المقال الماضي حاولنا أن نفهم كيف يكون الصيام طريقا للتقوى، ورأينا أن الصيام عن الطعام والشراب والشهوة - مع ما في الطبيعة البشرية من الحاجة إليها والتشوّف لها - هو تقوية للإرادة، وإضعاف لسلطان الهوى، وتلك هي التقوى أو من التقوى. وهنا نكمل محاولة الفهم والتفكر في كون الصيام طريقا للتقوى، وهناك قصة عجيبة تساعد على فهم الصيام وهدفه، إنها قصة طالوت، وقد بعثه الله ملكا لبني إسرائيل : «وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا» [سورة البقرة : 247]. ثم جاءت الآية والمعجزة دالة على اختيار الله له واصطفائه للمُلْك؛ التابوت تحمله الملائكة : «إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ» [سورة البقرة : 248]. لقد كان طالوت ملكا ربانيا، على رأس جيش من بني إسرائيل، لملاقاة جالوت وجنوده، وكان جيش طالوت لا يعاني أبدا ضعف القناعة بمشروعية المعركة وضرورتها، فهم الذي طلبوا وطالبوا نبيهم : «إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» [سورة البقرة : 246]، وهدف القتال واضح بيّن : «وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا» [سورة البقرة : 246]. وترسخت هذه القناعة بآية معجزة، لا تجعل للريبة مدخلا، وهنا طالوت يدرك بما آتاه ربه من بسطة العلم أن التحدي هو تحدي الإرادة، وأن القناعة الفكرية وحدها لا تكفي، ولو تأكدت بالآيات والمعجزات، فلا بد من إرادةٍ صادقة، وعزمٍ راسخ، ليتحول العلم إلى عمل، والقناعة إلى امتثال. أما العلم دون عمل، والقناعة دون امتثال فهو سبيل المغضوب عليهم والعياذ بالله. فجاء الاختبار الرباني للإرادة، ليستبين أهل العزم والصدق : «إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِه » [سورة البقرة : 249] فاسّاقط أكثر الجيش أمام هذا الاختبار، وشربوا منه إلا قليلا منهم. إن من تنتصر إرادته على شهوة الماء جدير بأن تنتصر إرادته في ساحةالقتال، حين ينتصر الأقوى إرادةً وليس الأكثر عددا. وحين تمايز أهل الإرادة والصدق والعزم، ساروا إلى جالوت وجنوده، فاحتاج القوم عند ملاقاتهم للتعلق بالله ومراقبته حبا ورغبا ورهبا : «قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ) كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)» [سورة البقرة]، وهنا تستكمل التقوى أركانها، والعاقبة للمتقين: « فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ» [سورة البقرة :251]. وفي الآية الأخرى يقول الله : «وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ » [سورة البقرة : 45] وهي من هذا الباب، إرادة ومراقبة، والأوامر الشرعية يُصدِّق بعضها بعضا : «وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)» [سورة النساء]. والصيام هو طريق التقوى، فإنه لا يوجد مثل الصيام يوقظ في القلب مراقبة الله، ويذهب للإرادة يقويها، وللهوى فيضعفه، «كلُّ عَمَلِ ابنِ آدمَ لَه إلَّا الصَّومَ ، فإنَّهُ لي وأَنا أجزي بِه» (متفق عليه). إن منع الجيش من شرب الماء لم يكن عقابا ولا تعنتا، بل كان لهدف نبيل، حتى يتمايز أهل الصبر والإرادة لمناجزة العدو والانتصار عليه، وجاءت الرخصة بغرفة ماء رحمة وتيسيرا. وهكذا فريضة الصيام ليست للظمأ والعطش والعنت، بل هي لحكمة عظيمة ومقصد كريم، وفيها من الرخصة والتيسير ما فيها : «يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)» [سورة البقرة]. أتذكّر هنا آية تشبه هدف الصيام، وتُذكّر بقصة طالوت، وجاءت بتفصيل وتصريح بديع: « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ»[سورة المائدة : 94]. فهنا شهوة الصيد وإغرائه، تطاله يده ورمحه لو أراد، لكن يتركه المؤمن بغلبة إرادته على هواه، من أجل الله، وتلك هي التقوى. والشواهد في ذلك كثيرة، والمقصود هنا أن نفطن لمقصود الصيام وحكمته، ونتعبد لله بالصيام، ونتعبد لله بتحقيق مقصوده وحكمته في مسيرة الحياة وإغراءاتها «من لمْ يَدَعْ قولَ الزورِ والعملَ بِهِ ، فليسَ للهِ حاجَةٌ في أنِ يَدَعَ طعَامَهُ وشرَابَهُ» (رواه البخاري). إن الهوى خصم عنيد ومراوغ، ويأتي للعبد بصورة الترغيب والترهيب، ويتوارى في المال والنساء والولد والمنصب والشهرة وغير ذلك. والانتصار على الهوى لا يكون باستئصال شأفته، فإن ذلك ضرب من الهروب والعجز، ولم تأت الشريعة بذلك، بل بالتحكم فيه حتى يكون تابعا لا متبوعا. وتبقى المجاهدة ما بقيت الروح، ويحدث المؤمن بعد كل زلة أوبة، ويُتبع السيئة الحسنة، ولن يستغني المؤمن عن عبادة نهي النفس عن الهوى، ولو أبيح له كل شيء إلا تلك الشجرة التي أكل منها أبونا آدم وأمنا حواء ! «ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)» [سورة طه].