تشهد اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي فترة تُعدّ الأكثر كثافة في التنمية الاقتصادية في تاريخ هذه الدول، حيث يفرض التعداد السكاني المتزايد والحاجة لتنويع الموارد الاقتصادية استثمارات ضخمة عبر طيف القطاعات الاقنصادية المختلفة. ومن الأمور الجوهرية لهذا الازدهار التنموي الجهود المبذولة لضمان توفير كميات كافية من الطاقة والمياه لتلبية طلب يُعدّ من المستويات الأعلى في العالم، ومن المؤكد أنه سينمو بمعدلات تزيد على معدلات النمو الاقتصادي. وقد تبنّت حكومات دول مجلس إستراتيجيات شاملة لإدارة ضغوط الطلب المتزايد في مجال الخدمات المرفقية، وعملت على تحسين التشريعات المنظمة وتوجيه المستهلكين. وتشهد الفترة الحالية استثمارات جديدة في تقنيات وبنيات تحتية أكثر فعالية (على سبيل المثال، الشبكات الذكيّة، وخطوط أنابيب أكثر حداثة لتقليل الفاقد)، وقدراً أكبر من تكامل ودمج الأسواق (شبكات وطنية وإقليمية)، في حين يتيح ازدهار النشاط الإنشائي الإقليمي إدخال معايير كفاءة أعلى في المشاريع الإنشائية الجديدة. وفي كلمته أمام مؤتمر إدارة البُنى التحتية الذي عُقد مؤخراً في الرياض قال كبير الاقتصاديين بالبنك الأهلي الدكتور يارمو كوتيلين «إن أكثر التحدّيات حِدة على المدى القصير ستكون في جانب العرض، وسيتعيّن أن ينمو إنتاج الطاقة والمياه على المستوى الإقليمي بوتيرة متسارعة خلال السنوات القادمة للإيفاء بزخم جانب الطلب». وأضاف: على سبيل المثال، فإن الطلب الإقليمي على الطاقة، الذي ينمو بمعدل يربو على 7 بالمائة في السنة، لا يزال يتزايد بنحو الضعف كل عقد من الزمن، فالطلب المحلي المتصاعد يفرض ضغوطاً متعاظمة على إنتاج النفط على المستوى الإقليمي والذي يستنفد الاستهلاك المحلي قدراً كبيراً منه. وفي المملكة، فإن الاستهلاك المحلي من النفط المنتج بلغ 28 بالمائة في عام 2010، مرتفعاً من مستوى 17 بالمائة في عام 2000. وقال إن ترتيبات رفع القدرات الإنتاجية تتضمّن الجهود المكثفة لتطوير مصادر إقليمية جديدة للغاز الطبيعي من أجل تقليص الاعتماد على النفط في الصناعة وتوليد الطاقة. إضافة إلى ذلك، وعلى خُطى مبادرة دولة الإمارات، تتدارس الاقتصادات بالمنطقة بجدية مسألة إنتاج الطاقة النووية، التي تبقى دوماً أحد البدائل الراسخة والفعّالة التكلفة للهيدروكربونات. فضلاً عن ذلك، يتم تخصيص قدر كبير من الموارد لتطوير مصادر الطاقة المتجددة، وأبرزها الطاقة الشمسية. وقد برز دور البحث والتطوير العلمي، مدعوماً من الحكومات، كأحد أهم الأولويات في الاستثمار. وفي حين أن محور التركيز الأساسي في مجال المياه ينصبّ على تعزيز قدرات التحلية على المستوى الإقليمي، إلا أننا نشهد أيضاً المزيد من التوجّه إلى معالجة وإعادة استخدام أكثر فعالية لمياه المجارى. وقد تمّ تقدير حجم الاستثمارات المطلوبة في مجال المياه على الصعيد الإقليمي بتقديرات متفاوتة تراوحت حول 400 مليار دولار، بل قد تزيد على ذلك، حيث تم التخطيط لمشاريع تبلغ قيمتها نحو 270 مليار دولار خلال القترة حتى عام 2015 وحدها. وبالنظر إلى الحجم الهائل للاحتياجات على هذا الصعيد، اتخذت كافة دول مجلس التعاون الخليجي خطوات جادة ومهمة لتعزيز إسهام القطاع الخاص في المرافق. وقد تبنّت العديد من الاقتصادات في المنطقة أطراً قانونية معروفة للشراكة بين القطاعين العام والخاص مثل القانون الكويتي رقم 39، الذي ينصُّ على مشاركة القطاع الخاص في كل مشاريع الطاقة الكبيرة. وعلى امتداد المنطقة، يجري العمل في تنفيذ العديد من المشاريع الرائدة الهامة فعلى سبيل المثال، تطبّق شركة الكهرباء السعودية هذا الأسلوب على مشاريع محطة رابغ، ومحطة الطاقة 11 بالرياض، ومحطة القُريّة، بتكلفة إجمالية تقلّ قليلاً عن 28 مليار ريال. وهناك خطط تضم عدداً كبيراً من المشاريع الأخرى. وإضافة إلى أسلوب «الشراكة بين القطاعين العام والخاص»، يتم إدخال رأس المال الخاص إلى القطاع من خلال عمليات تخصيص جزئية لبعض الشركات الكبيرة الرئيسية مثل شركة الكهرباء السعودية وتزايد إصدار السندات والصكوك من قبل شركات المرافق العامة. وفي علامة فارقة مهمة، طرحت شركة أرامكو السعودية وتوتال للتكرير والبتروكيماويات في شهر أكتوبر صكوكاً لمشروع بقيمة 1 مليار دولار، وهو الأول من حيث الحجم في المنطقة، وذلك لتمويل إنشاء مصفاة تكرير بقدرة 400 ألف برميل يومياً في الجبيل. وتشكّل نشاطات البُنى التحتية في المنطقة أحد أهم الفرص الاستثمارية الأكثر جاذبية على المستوى العالمي بالنظر إلى قوة الطلب المتوقعة في الأعوام القادمة، والآفاق الاقتصادية العريضة في المنطقة. كما أن إشراك رأس المال الخاص في تمويل هذه العمليات التنموية لا تقتصر أهميته على تحريرالموارد الحكومية فحسب، بل أيضاً من حيث إنه يُتيح للمستثمرين المشاركة في منظومات بالغة الجاذبية. وقال كوتلين إن إيجاد المنتجات والهياكل التي تربط بين مجموعات رأس المال الخاص الضخمة بمنطقة الخليج والموجّهات الرئيسية للنمو الاقتصادي في المنطقة سيكرّر قصة النجاح الذي صادف رأس المال الخاص عند حشده لتمويل موجة ازدهار السكك الحديدية في القرن التاسع عشر والعديد من مشاريع البنية التحتية اللاحقة التي أحدثت تحوّلاً في الاقتصاد العالمي. وسيؤدي توفير المنتجات والهياكل التي ترعى الاستثمار الخاص إلى إيجاد محفز هام لتطوير قطاع الخدمات المالية بالمنطقة، وبأساليب يمكن تطبيقها في مناطق أخرى من العالم.