في زمانِ الثقوبِ.. والنايُ يذوي.. صار يشدو الزمانُ بالغربالِ يا زماناً كانَتْ بِهِ الخيلُ خيلاً عُدْ إلى الأرضِ بالرجالِ الرجالِ واتَّخِذْ من (أبي رياضٍ) مثالاً تَتَجَلَّى بِهِ معاني المثالِ الحميميَّة تستحقُّ أن تُفتضح لأنَّ فضائحَها خضراء، وقد جمعتني بالأديب (مبارك بو بشيت) من الأخوَّة الحميمة ما يستحقُّ الافتضاح. جمعتني به القصيدةُ أعمق مما جمعتني به الجغرافيا وأجمل مما جمعني به التاريخ.. كان لقاؤنا الأول في بيت الصديق الشاعر محمد الجلواح، وما زلت منذ تلك الليلة.. ما زلت أختزن في ذاكرتي من وهج ذلك اللقاء: أزيزَ الدعابات وهي تنطلق من فوَّهات الأحاديث، نُبلَ الأصدقاء وهم يتحصَّنون بأكتاف بعضهم، بكاءَ القصائد الملسوعة بالعشق، لهاثَ الشاي المتصاعد من رئة الإبريق، تراتيل (الاستكانات) وهي راكعةٌ على الشفاه، ورقصةَ القهوة على أطراف الفناجين وهي محزّمةٌ بالهال. ما زلت أختزن كلّ ذلك من وهج لقائنا الأول الذي امتدّ ليصبحَ لقاءً بطول اثنين لم أفهم كيف اعتقلته الرياضيات بين أقواس معادلاتها عمرا بأكمله فهو لا يرى الحياةَ إلا بعيون شاعر، وكأنَّما الشعر بالنسبة إليه حسابٌ شعوريٌّ يعدم الأرقام بالشوق ويُحصي ذلك العدم. وعشرين عاما. آنذاك.. وفي حواره معي بجريدة اليوم، اتَّهمَني بشعرٍ لا أستحقُّهُ فكانت هذه التهمةُ طموحا لي كي أسعى لإدانتي بها. إذاً.. حينما أتحدّث عن الأستاذ مبارك بو بشيت لا بدّ أن أفتح كرَّاسةَ الوعي الشعري على أولى صفحاتها.. ولا بدَّ أيضا أن أقلبَ الصفحةَ وأقرأَ ما قلته له ذاتَ غوايةٍ جميلة: (أبا رياض).. إنّ الفضيلةَ –كما اتُّفِقَ عليها- لا تصنع شاعرا. فبَصَمَ على مقولتي إعجابا حتى كاد أن يخلع أناملَهُ العَشرَ تواقيعَ رضاً وموافقة. طالما استغربتُ من حجم إيمانه الكبير بمسلَّمتِهِ التاريخية (إنّ عدد شعراء الأحساء بعدد نخيلها).. وعندما جئتُ أفكِّك هذه المسلَّمةَ عضوا عضوا من جسد نصِّها، اكتشفتُ أنّ كلَّ أحسائيٍّ شاعر، ولكن شاعرٌ بحبِّ الأحساء وأوجاعها أكثر من كونه شاعرا في اللغة. لم أفهم كيف اعتقلته الرياضيات بين أقواس معادلاتها عمرا بأكمله فهو لا يرى الحياةَ إلا بعيون شاعر، وكأنَّما الشعر بالنسبة إليه حسابٌ شعوريٌّ يعدم الأرقام بالشوق ويُحصي ذلك العدم. كلَّما التقينا تحوَّل المكانُ إلى ميزانٍ بكفّةٍ واحدةٍ مائلةٍ باتّجاهه من فرط ما هو ممتلئٌ بالحضور، وطالما أسندنا معاً جدران الليل على أكتافنا واتَّسدنا قمر المسامرة حتى الهزيع الأخير. وكلّما قرأت قصائدي في حضرته تلمَّستُ دهشته وقد اتّخذت شكلَ قصرٍ يفتح لي غرفاتِه، وما إنْ نعبر ببيتِ غزل حتى تنتصب آهاتُهُ مثل قبابٍ صامدةٍ في وجه الزمن.. وفي وجه أعداء الحبّ والغزل أيضا.