يوم حطّت طائرة الرئيس الراحل أنور السادات في مطار بن جوريون، قبل أربعة وثلاثين عاماً، لم يصدق أحد أن رئيس أكبر دولة عربية، يزور دولة العدو، وبعدها بعامين، عندما وقع نفس الرجل اتفاقية كامب ديفيد، لم يقتنع أحد، بأنه من الممكن تحقيق سلام مع «العدو». الإعلام الإسرائيلي الذي وقف مبهوراً، تساءل في عناوين عريضة، بل عنونت إحدى الصحف يومها قائلة «شكراً للربّ الذي أعاشنا لنرى علم إسرائيل يرفرف في سماء القاهرة» وقالت أخرى إن «السادات هو الرجل الذي حقق نبوءة التوراة» ليتعايش الحَمَلُ (إسرائيل) مع الذئب (الذي هو العرب طبعاً). ليتم بعدها وطيلة ثلاثة عقود سلام رسمي، فرض على الشعب بالقوة، والتزم به من جانب واحد فقط هو للأسف جانب مصر! أيامها وكنت صحفياً تحت التمرين في صحيفة مصرية، أعددت بحثاً عن رؤية الإعلام الإسرائيلي للسلام مع مصر، وكان أغلبه سلبياً، ما أن رآه رئيس تحريري وقت ذاك الأستاذ سمير رجب، حتى قرأه بإعجاب، ثم احتفظ به، بعد أن نظر إليّ نظرة ذات ريبة مصحوبة بابتسامة صفراء.. لا هو نشره، ولا أعاده لي، ففهمت اللعبة.. إذ كان المطلوب أن أغلق فمي إلى غير رجعة، وإلا فالباقي مفهوم ومعلوم؟ الليلة قبل الماضية، كان المشهد الشعبي العارم.. مغايراً تماماً لحقيقة السلام المزعوم، وتأكيداً على فشل أي استراتيجية تعني فرض التطبيع بقرار «سيادي» أو فوقي، وإيضاحاً أن أكثر من ثلاثين عاماً من التطبيع مع الدولة العبرية، ليست سوى وهمٍ أو سراب. لو كنتَ معهم أمام السفارة الإسرائيلية بالقاهرة، وشاهدتَ الوجوه السمراء، وهي تدك الجدار العازل أمام السفارة العبرية بالقاهرة، لتعجّبت من هشاشة هذا السلام، غالبية من شاركوا، ولد وعاش في ظل هذا الترويج الضخم لأكذوبة التزمنا بها نحن العرب أو المصريين، ولم يلتزم بها العدو بالمقابل ولا مرة. جيل لم يشارك في حرب، أو يسمع عنها، ربما قرأ عنها في المناهج الدراسية أو كتب التاريخ، لكنه لم يعش يوماً تحت وقع أزيز الطائرات وجحيم الغارات ومشاهد الضحايا. لو كنتَ معهم، أو رأيتهم كما رأيت، لعرفتَ أن الشعوب لا يموتون، وأن هؤلاء الشباب الذين سخرنا منهم كثيراً، مهما كانت أخطاؤهم وخطاياهم، يمثلون الأمل الباقي لهذه الأمة المكلومة والمنكوبة في بعض زعاماتها، كما رأينا ونرى، في مصر وتونس وليبيا واليمن وسورياهذا الجيل، رأى وسمع فقط، العدوان على لبنان، والعربدة الصهيونية على غزة، وتحسّر مراراً وتكراراً على أخبار قتل جنود مصريين بأيدٍ إسرائيلية، دون أن تحرّك حكوماتهم السابقة في عهد الرئيس المخلوع ساكناً ولو حتى لحفظ ماء الوجه.. معظمه لم يَرَ جرائم إسرائيل في مدرسة بحر البقر، ولا العدوان على السويس ومدن القناة، ولا الطائرات الصهيونية تسرح وتمرح كما شاهدتها وأنا طفل في سماء قريتي في أقصى شمال مصر عند البحر الأبيض المتوسط، مسبّبة الرعب.. فيما القرويون البسطاء يخرجون بعصيّهم وسكاكينهم استعداداً لمعركة لا تكافؤ فيها على الإطلاق! ما الذي دفع شاباً مصرياً قبل أسبوعين، ليتسلق 22 طابقاً في الهواء، معرّضاً حياته للموت، لينزل العلم الإسرائيلي من فوق السفارة، ثم يشعل فيه النار؟ ما الذي دفع الآلاف الذين تجمهروا أمام سفارة «العدو» واقتحموها بعد أن حطموا الجدار الأمني وأسقطوه حجراً حجراً بشواكيش صغيرة، طيلة أربع ساعاتٍ فقط، تؤكد للأذهان أن القوة وحدها لن تفرض سلاماً غير عادل؟ إنه ميزان الرعب الجديد، والمكتوم، الذي لم يتوقعه أحد، أو يعمل له أي حساب طيلة العقود الماضية، والذي دفع الرئيس الأمريكي أوباما للطلب العاجل من مصر بحماية سفارة إسرائيل، فيما خرجت الصحف الصهيونية أمس لتصف المتظاهرين بالغوغائيين. لو كنتَ معهم، أو رأيتهم كما رأيت، لعرفتَ أن الشعوب لا يموتون، وأن هؤلاء الشباب الذين سخرنا منهم كثيراً، مهما كانت أخطاؤهم وخطاياهم، يمثلون الأمل الباقي لهذه الأمة المكلومة والمنكوبة في بعض زعاماتها، كما رأينا ونرى، في مصر وتونس وليبيا واليمن وسوريا. شباب لم يدفع لهم أحد، ولم يستأجرهم أحد.. شواكيش صغيرة، وإرادات أقوى، لا شك في أنها الآن تجعل الإسرائيليين لا يشكرون الربّ، بعد ثلاثين عاماً من رفع علمهم في سماء القاهرة!. [email protected]