أخيراً، وبعد طول ترقّب، خرجت لنا السبت الماضي (2 يوليو 2011م) صحيفة البلاد بثوبها الجديد. البلاد هي الصحيفة الأقدم في المملكة العربية السعودية، فقد تأسست في عام 1350ه، وثوبها الجديد يعبر عن التغيير الكبير الطارئ في توجهها ومحتواها للمرحلة المقبلة. هذا التغيير جاء تحت شعار غير تقليدي يلخص الرسالة الجديدة التي تبنتها الصحيفة، يقول: «الإعلام الجديد.. في نسخته الورقية». شعار الصحيفة الجديد يلخص القلق المتفشي بين الصحف المحلية الورقية من سطوة الإنترنت ومزاحمة الإعلام الجديد لها بقوة في جذب القارىء. هذا القلق دفع صحيفة عريقة كالبلاد، والتي تمر بظروف مالية صعبة، إلى بدء تغييرات جذرية، فأسندت التنفيذ والتحرير إلى فريق عمل شاب من خارج أسوارها. كما أطلقت المؤسسة موقعاً إنترنتياً حديثاً، يُسهِم في التواصل اللحظي مع القارئ أينما كان، للتغلب على افتقار الورق لخاصية التحديث اللحظي والانتشار العالمي. عن ذلك، يقول رئيس تحريرها الأستاذ علي حسون في افتتاحية أول نسخة مطورة: «نأتيكم بذلك الربط بين كينونتها كجريدة ورقية وأخرى إلكترونية في علاقة جدلية متصلة، وذلك على مدى الأربع والعشرين ساعة تكون البلاد معك أينما كنت بأخبارها الساخنة والحية». ومع تمنياتي لصحيفة البلاد وفريق تحريرها بالتفوق والتوفيق، إلا أني أرى خللاً جوهرياً في صلب إستراتيجية الصحيفة للمرحلة القادمة، وهو الإصرار على «الورقي» في عصر «الإلكتروني». البلاد كانت ستخطو خطوة ثورية وجريئة، وسبّاقة محلياً، لو أنها ألغت «الورقي» تماماً، واتجهت نحو الإنترنت. الصحف الورقية حالياً تمر في مرحلة تحوّل دقيقة، تزداد ملامحها وضوحاً كل يوم. ستنتهي هذه المرحلة بمشهدٍ أليم: قراءة الصحيفة من أجهزة لوحية (آي باد وأخواتها). إذا لم تتخذ الصحيفة الورقية خطوات جادة من الآن للاستعداد لمرحلة «ما بعد الورق»، فقد تذوي وتختفي. البلاد، وإن كانت صحيفة قديمة، إلا أن حظها من الشعبية والانتشار قليل. وبما أننا نعيش ما يمكن تسميته ب«أواخر أيام الصحافة الورقية»، فلا أعتقد أن التشبث بالورق بات أمراً حكيماً. الصحف هنا، وربما في كل مكان، تعتمد على جذب الإعلان، كوسيلة للبقاء والمنافسة. نظرة سريعة لسوق الإعلان الصحفي محلياً، تشير إلى أن أكثر الصحف نجاحاً في جذب المُعلِن هي الصحف العريقة قوية الانتشار في مناطق المملكة الرئيسية الثلاث (اليوم في الشرقية، الرياض/ الجزيرة في الوسطى، عكاظ/ المدينة في الغربية). ولم تنجح صحف ورقية أخرى طارئة، باستخدام الترويج المكثف تارة، وبتسخير المحتوى المثير تارة أخرى، في جذب الإعلان. لأن المعلن ببساطة يريد خياراً آمناً يستثمر فيه أموال إعلانه، فتكون الصحف الشعبية الكبرى في كل منطقة هي الأكثر حظاً في جذب إعلانه، وأمواله. لذا أرى أن البلاد لن تكون «استثناءً» في وجه هذه النزعة التجارية، حتى مع لمسات التطوير الجميلة على شكلها ومضمونها. الصحف الورقية حالياً تمر في مرحلة تحوّل دقيقة، تزداد ملامحها وضوحاً كل يوم. ستنتهي هذه المرحلة بمشهدٍ أليم: قراءة الصحيفة من أجهزة لوحية (آي باد وأخواتها). إذا لم تتخذ الصحيفة الورقية خطوات جادة من الآن للاستعداد لمرحلة «ما بعد الورق»، فقد تذوي وتختفي. أولى الخطوات في المرحلة القادمة: هي احترام عقول القراء، واحترام رغباتهم أيضاً. احترام الصحيفة نابع من احترامها لنفسها ولقرائها. جودة الأخبار، وعرضها دون تحيّز، وجودة صياغتها.. كلها أمور بديهية للوصول إلى عقل القارئ وقلبه. لم يعد القارئ يستسيغ أخبارا مثل: عودة رجل الأعمال من سفره، واستقباله لضيوفه! ولم يعد يستسيغ أيضاً الأخبار المهترئة التي تصدرها وكالات وأقسام العلاقات العامة. الخطوة الثانية: ضخ جرعة من الجرأة والحرية في الطرح. أسلوب التحفظ القديم لم يعد مجدياً كما كان في ظل ثورة الأخبار على الإنترنت. بل إن السكوت عن قضايا مفصلية كثيرة، يُنقص من مهنية الصحيفة واحترامها. الجرأة لا تتم بالضرورة باللجوء إلى الصِّدام مع «الرسمي» و«الشعبي»، وإنما بطرح القضايا الشائكة بطريقة مهنية رصينة. الخطوة الثالثة: لا يكفي أن يكون للصحيفة موقع إلكتروني. الموقع الإلكتروني إذا كان جامداً يتساوى مع الورق. لذا يجب أن يكون الموقع تفاعلياً؛ يتفاعل مع رغبة القراء في التعبير، ويتفاعل مع الاتجاهات التقنية الطارئة شكلاً ومضموناً، ويتفاعل كذلك مع كافة أشكال الشبكات الاجتماعية. الخطورة الرابعة: التركيز على «جودة المحتوى» كورقة إستراتيجية مهمة في المنافسة. أغلب وسائل التواصل الاجتماعية على الإنترنت تورد الخبر بشكلٍ مبسّط سريع الهضم. الصحيفة الجادة في المنافسة يجب أن تجتذب القارئ بمحتوى ذي قيمة عالية، يتجاوز سطح الخبر إلى عمقه.. تحليلاً وتفصيلاً. الخطوة الخامسة: دعوة الشباب «المبدع» حتى يتسنى للصحف العريقة إسقاط تهمة «النخبوية» عنها. لقد أظهرت الشبكات الاجتماعية أن هناك مبدعين كثيرين بيننا لم نكن نعرفهم، تميّزوا بطرحهم الرائع ونتاجهم المبتكَر. هؤلاء موجودون على الإنترنت.. في المدونات والمنتديات والشبكات الاجتماعية. هؤلاء ينبغي احتضانهم.. فالتغيير دائماً يتحقق على أيدي الشباب. الخطوة السادسة: «تنويع المحتوى» المعروض بحيث يتجاوز النصوص إلى الوسائط المتعددة، للمنافسة مع باقي الوسائل الإخبارية على الإنترنت. أخيراً، يبقى نجاح كل ذلك مرهوناً بقدرة الوسيلة على ابتكار أساليب كسْب تجارية ذكية على الإنترنت، من ضمنها الإعلان وبيع المحتوى، من أجل خلْق أرباح تسهم في بقاء المؤسسة وتطورها. لن ينفع مؤسساتنا الصحفية اليوم الاعتصام بجبلٍ من «ورق»، فلا عاصم مستقبلاً من الغرق في موج «الإنترنت»، إلا من رحِم ربي. الإنترنت.. سيكون العنوان الموحد لكل مؤسساتنا الصحفية في المستقبل. [email protected]