مع دخول فصل الشتاء من كل عام، يصبح ركوب البحر بالنسبة لصيادي الأسماك في لبنان مغامرة يرتبط نجاحها أو فشلها بحالة الطقس والموج، وبقدرة كل منهم على مواجهة ما يخبئه البحر من مفاجآت في هذه الفترة من السنة والتي تمتد أحيانا لخمسة أو ستة أشهر .. فيأوي الصيادون إلى مقهاهم قبالة ميناء المدينة بانتظار انحسار الأنواء البحرية، ليحل محلها الطقس الصحو والمشمس والذي يطلق عليه أصحاب المهنة اسم "الغلّيني"، وهكذا .. ويسقط الصيادون من حسابهم الأيام العاصفة والشديدة الأمطار باعتبارها أيام عطلة قسرية لا يرتادون فيها البحر، ولكنها عطلة على حسابهم الخاص لأن مهنة الصيد بالنسبة لهم هي مهنة "كل يوم بيومه " وخلال أيام "النّو"-أي العواصف، تربط مراكب الصيد المائة وخمسون بإحكام برصيف الميناء وتغطى محركاتها بالشوادر لحمايتها من المطر، فيما تنقل الشباك إلى مكان مسقوف لتنظيفها وإعدادها لإبحار جديد وقت الصحو، أو تترك على الرصيف حتى إذا ما توقف المطر وأشرقت الشمس، سارع الصيادون إلى نشر الشباك وتجفيفها وتنظيفها، ويجتمع معظم الصيادين ولا سيما الكبار منهم خلال موسم الأمطار والعواصف في المقهى العائد لنقابتهم قبالة الميناء، خاصة خلال فترتي الصباح والمساء . ولا تغيب حكايات البحر وشجون المهنة عن جلساتهم .. يقول رئيس نقابة صيادي الأسماك في مدينة صيدا (جنوبلبنان) الحاج ديب كاعين أن مقهى الصيادين هو بيتهم الثالث، وأن بيتهم الثاني هو البحر وأنهم اعتادوا على تمضية أيام " النّو " في المقهى منذ عدة عقود من الزمن، ويضيف: في الماضي كان الصيادون يتوزعون على ثلاثة مقاه محاذية للميناء في صيدا، الأول "مقهى راشد" وكان يقصده صيادو الصنارة أو "الشريكي"، والمقهيان الآخران "العيساوي" و "عكرة" وكان يقصدهما صيادو الشباك والجاروفة . لكن في يومنا هذا، أصبح جميع الصيادين يتجمعون في المقهى التابع للنقابة والذي أنشئ أواخر الثمانينيات، وهو مقهى تديره النقابة ويقتصر رواده على الصيادين فقط.. ويشير كاعين إلى أن فترة السبات الشتوي بالنسبة لصيادي الأسماك تبدأ عادة منتصف شهر تشرين الثاني وتمتد أحيانا حتى أواخر شهر آذار، ويغتنم خلالها الصيادون أيام الصحو أو "الغلّيني" فيكسحون يوما أو يومين أو ثلاثة ويعطّلون مثلها وفقا لحالة الطقس، لافتا إلى أن البعض منهم يقوم في تلك الأثناء بأعمال الصيانة لمحرّك مركبه أو بتنظيف شباكه، علما بأن يوم التعطيل يؤثر على معيشته التي تعتمد على ما يعود به من غلّة كل يوم.. ويصف الصياد المتقاعد عبد القادر الحدق مهنة الصيد البحري بأنها مهنة شباب، وأن الصياد عندما يتقدم في السن يصبح عاجزا عن تحمل الأعباء الجسدية والصحية المترتبة على هذه المهنة . ويقول : ورثت مهنة الصيد عن والدي ونزلت البحر وعمري عشر سنوات، ولم أتقاعد إلا بعد أن أصبحت تؤثر على صحتي، لكني لم أبتعد عن رفاقي الصيادين ومازلت أتردد كل يوم على المقهى وأتحدث معهم في أمور الدنيا وشؤون الصيد والبحر .. ولم أورّث المهنة لولدي الوحيد لأنني عانيت فيها كثيرا ولا أريد له أن يعاني مثلي، فعلمته مهنة أخرى . ويجاريه الصياد محمود عبد القادر الكبي الرأي، فيرى أن مهنة الصيد أصبحت مهنة من لا مهنة له، يمارسها الصياد حتى لا يمد يده إلى الناس .. ويقول : لقد ولدت ونشأت وأمضيت كل حياتي في البحر وتعلمت منه الكثير، ولكني لم أخرج منه بشيء للمستقبل، وهأنا اليوم لا أقوى على ركوبه في موسم "النوّ " والأمطار، فأمضي معظم وقتي في مقهى الصيادين . وفي الموسم الصيفي يقوم أولادي بمساعدتي رغم أنهم غير متفرغين لمهنة الصيد .. أما الصياد أحمد سليم السن فيقول انه نزل البحر منذ كان عمره ست سنوات، وأن مهنة الصيد هي مهنة "كل يوم بيومه"، ولا يستطيع الصياد أن يدّخر لشيخوخته قرشا واحدا" .. ويضيف : سلمت مركبي إلى ولدي الذي أخذ المهنة عني مثلما أخذتها أنا عن والدي، وأقوم حاليا بعمل أقل جهدا على مركب خاص، نحن نعتمد في عملنا على الموسم الصيفي، لأن الإبحار في الأنواء العالية ووسط العواصف والأمطار مغامرة لا يقوى على القيام بها إلا الشباب.. بينما لا يجد كبار الصيادين أمامهم سوى هذا المقهى الذي أصبح مثل البحر جزءا من حياتنا، نمضي فيه فترة سباتنا الشتوي ونتداول فيه همومنا وشؤون حياتنا، مستعيدين مغامراتنا البحرية يوم كنا نمخر عباب الموج سعيا للرزق والعيش الكريم.