ما النقد؟ سؤال يبدو بديهيا أو من ذلك النوع من الأسئلة التي يجاب عنها عادة بطريقة تفسير الماء بعد الجهد بالماء، فالنقد هو النقد والتصدي لتعريفه مضيعة للوقت. بيد أن هذا السؤال يكتسب مشروعية طرحه كلما ظهرت إلى الوجود في المشهد الثقافي نظرية نقدية جديدة، فالنظريات كما هو ماثل تتكاثر على المشتغلين والمهتمين بالنقد تكاثرت الظباء على خراش فيحتارون أية نظرية يصطادون، ويتجدد تبعا لذلك إشكالية تعريف النقد وتحديد ماهيته ومجالات اشتغالاتة.يضاف الى هذا التحولات والتغيرات في الاشتغال النقدي كما حصل لناقدة مثل يمنى العيد (على سبيل المثال لا الحصر) التي بدأت ممارسة النقد باعتباره إنتاج معرفة بالنص، لتتحول لاحقا إلى تبني مفهوم النقد كنص على نص كما ذكرت في لقاء نشر في (اليوم الثقافي) أما من وجهة نظر الناقدة لمياء باعشن فالنقد عملية إدخال المنجز الإبداعي في قوالب النظريات النقدية كما يفهم من كلامها في حوار سابق، نشر في (اليوم الثقافي) أيضا. وسنقدم هنا بعض الشهادات من نقاد من مصر كما وعدنا في الأسبوع الماضي إذ سبق وأن قدمنا شهادات من المملكة وسوريا.. يؤكد الناقد احمد عبد الرازق ابو العلا ان العملية النقدية تتوقف على مدى موهبة من يقوم بها، فالناقد ليس قاضياً فقط يقوم بمحاكمة المبدع او العمل الابداعي، فالنقد في جوهره الحقيقي عملية اكتشاف جديد للعمل الابداعي، وهذا الاكتشاف يحيله الى مفرداته الاولى، باحثاً عن مدى جدية الكاتب ووعيه باقامة العلاقات بين هذه المفردات، ومن هذه الزاوية تعد العملية النقدية مساوية للعملية الابداعية، حيث ان كلتيهما تعد اكتشافاً لشيء، فالابداع اكتشاف للواقع ولم مبعثراته المتناثرة بشكل ادبي جديد، يأخذ في النهاية الصورة المتعارف عليها، مسرحاً او شعراً او رواية او قصة.. الخ، ويشير ابو العلا الى ان النقد ايضاً ليس اكتشافاً للواقع فقط، وانما للعمل الابداعي في ضوء ثقافة الناقد ووعيه وموقفه من الحياة والواقع، وموقفه الفكري والادبي والانساني، لذلك فان مهمة الناقد مهمة عسيرة، الا على من يملك الادوات التي تتيح له فرصة القراءة الجيدة والنظرة الفاحصة والتحليل الهادف الذي يصل الى نتائج يستفيد منها بالدرجة الاولى المبدع، ويستفيد منها بالدرجة الثانية متلقي الابداع - والقارئ المتخصص المتعامل مع هذا الابداع. يحدد الناقد والشاعر شعبان يوسف النقد بقوله: اظن ان كل كتابة تحاول تفسير العالم عبر نصوص ادبية هي نقد، وحينما تعتمد هذه الكتابة على وسائل ايضاحية مقبولة للعقل، وملائمة للفهم، ومدركة للبعد الانساني الذي يتلقى ويتعلم ويستوعب، نستطيع ان نقول ان هذا (نقد) اما الكتابة التي تزيد الامر غموضاً، وتصبح ألغازاً لا تفيد الا في تكثيف العتمة حول النص المفقود او المقروء، فلا تعد بأي درجة من درجات النقد واشكاله التي تتراوح بين النقد الايضاحي بشكل عام، او النقد الشارح كما يسمونه الان. وهناك النقد الثقافي الذي يتوسل كل اشكال المعرفة لمحاصرة وفهم وتأويل النص، وهناك الابعاد المتعددة للتناول النقدي: الاسطورة، البناء الاسلوبي، الاتجاه النفسي، الاتجاه الاجتماعي.. الخ، وكل هذه الاشكال من التناول تضيء النص، وتفتح مغاليقه، وتفسر رموزه المترامية في جنباته، وهناك نماذج ناصعة خدمت النقد بشكل كبير، وان كان هناك اختلاف في طرائق النقد، مثل د. محمد مندور ود. علي الراعي ود. عز الدين اسماعيل ود. احسان عباس ود. جابر عصفور وفاروق عبد القادر ود. شاكر عبد الحميد. كل هؤلاء النقاد وغيرهم كثيرون قدموا اشكالا ناصعة من النقد الذي يثري المعرفة الانسانية بجميع صورها، بعيداً عن الالغاز الذي يتخفى تحت ستائر معتمة وطرائق شائكة، أزعم ان منتجيها لا يدرون عمق مغزاها، فتأتي هكذا "كتابة ناقصة" تفتقر الى اليسر الممتنع والمضيء والفاهم، ففاقد الشيء لا يعطيه، وبالتالي فان الناقد الذي يستسهل ويحمل معه اجهزة تامة الصنع ونهائية، مثل الاجهزة الكهربائية، هو ناقد غير قادر على فك مغاليق النص وتفسير رموزه التي تؤدي بالتالي الى اضاءة أي عتمات تكمن في النص. اما من لا يعانون في قراءة النص، فانهم يفسدون متعة فهمه، وهذا يحدث للكثيرين، حتى بعض النقاد الكبار، استناداً الى ثقتهم المبالغ فيها بأنفسهم، فيقعون في هذا الاستسهال. يقول الدكتور عزت جاد استاذ النقد الادبي بجامعة حلوان بالعودة الى الذاكرة قبل التحدث عن مفهوم او مناسبة للبيئة لا بد ان نتعرف على بدايات الثورة النقدية فنجدها ظهرت بناء على رغبة ملحة وطموحة لتفسير نتاج الثورة الابداعية في اوائل القرن العشرين وما احدثته من انقلاب في المعايير بعدما جاءت به الرمزية وما بعدها السريالية من نصوص مبتكرة كان من الصعب التعرف عليها عن قرب الا من خلال توجهات نقدية جديدة كان اول من فرض نواميسها الشكليون الروس في موسكو وليننجراد ثم كانت المدرسة التشيكوسلوفاكية، ومنها انطلقت توجهات النظريات من الادبية حتى البنيوية الى فرنسا وامريكا، ويؤصل النقد الجديد لميلاد البنيوية ثم تلقح بأفكار بيرس وسوسيد بعد ذلك لتنشط العلاماتية ويصبح النص عبارة عن تركيبة من العلامات التي تنهض عن التداخل النصي، يتعرف العام نظرية التناصية وتبدأ فكرة تحرير الدال عن المدلول في الاستقراء، فتطرح من خلال التواصل الفكري المجرد للنظرية ما عرف بالتفكيكية والرحلة من الادبية الى التفكيكية، وان نهضت على ثورة الشكليين الروس ثم مدرسة براغ، فاصحاب النقد الحديث، الا انه في نفس الوقت كانت تتمخض الحركة النقدية عن منهج علمي يؤصل لعلم جديد يعتمد نظرية النص وينطلق من المادة اللغوية والاسلوب وهو ما عرف بالاسلوبية، واذا كانت بعض هذه النظريات تتسق في اصولها مع توجهات قديمة وتنبع من مذاهب فلسفية في الاساس سواء كانت غربية او عربية، فاننا لسنا بحاجة لالتواءات تعسفية اذا ما ادركنا ان غاية هذه النظريات لم تكن لتتحقق الا من خلال استواء نتائجها التطبيقية قدر استواء مفرداتها النظرية فضلاً عن وقوعها على الشمول والعموم الذي قد لا يبدأ من امتداد طبيعي للتأصيل ومنطقية التواصل العلمي بين الحضارات السابقة حتى لحظة تجليها في العصر الحديث، وقد تساهم الحضارة العربية والاسلامية بدرجة لا تقل بأي حال من الاحوال عن الحضارات الاخرى غير ان المغزى والغاية والوسيلة تنصب على النظرية العلمية في فلك المجرد حال تجليها كاملة متكاملة. الناقد والنص يضيف الدكتور عزت جاد ان المشكلة جاءت في النقد العربي عندما تتبع بلا وعي النظريات الغربية ونتجت مشكلة كبرى هي علاقة الناقد بالنص، فهناك من يعترف بموت المؤلف وعدم وجود رؤيته في النص، ومنهم من يخالف هذا، ومن وجهة نظري لا يمكن ان نتصور ناقداً يعتمد في تحليله للنص على ذكائه اكثر مما يعتمد على ما تنم عنه طبيعة النص، ذلك لاننا افتقدنا مرجعية تواصلية معيارية الخطاب النقدي في حين ان السجل الاصطلاحي في كل فرع من العلوم هو الكشف عن المفهوم الذي يقيم للمعرفة النوعية سياجها المنطقي، بحيث يغدو الجهاز المصطلحي لكل ضرب من العلوم صورة مطابقة لبنية قياساته حتى اضطرب نسقها اختلف نظامها وفسد باختلالها تركيبة فتنشأت بفعل ذلك انسجته. ولذلك فالى جانب التفسير والابداع النقدي لا بد ان يحفظ للفكر مساره وللمعرفة بغيتها في شكل تصورات ثابتة لولاها ما خرج النص عن ذلك النسق من الموضوعية وما استطاع الحفاظ على نهجه العلمي فشفرات المصطلح وحدها هي التي تتمتع تصوراتها بخاصية الثبات الدلالي او المرجعية العلمية داخل جهاز لغوي يعتمد على ذاكرته الاولى على لغة اشارية تعنى بالتحول من خلال اعتباطيتها ومن خلال اتكائها على المستويات البلاغية المختلفة التي تسعى إلى تحقيق سياق جمالي يعنى بغزارة الدلالة وخصوبة الايحاء وليصبح النقد وحده القادر على قيادة اللغة بعد ان سبق له قيادة الفكر واحكام النهج وتحقيق التواصل، فالنقد هو نقطة الضوء الوحيدة التي تضيء النص حينما تتشابك خيوط الظلام وبدونه يغدو الفكر كرجل اعمى في حجرة مظلمة يبحث عن قطة سوداء لا وجود لها (كما يقول المثل الانجليزي). يضيف الدكتور عزت ان النقد اذن وسيلة النظرية التي تنطلق منها مقدماتها حتى لو كانت هذه المقدمات مجرد فرض علمي بل وقد يصبح غايتها احياناً ما دامت النظرية جملة تصورات مؤلفة تأليفاً عقلياً أن تهدف الى ربط النتائج بالمقدمات، كما يقع على عاتق النقد مسئولية صقل البنية الذهنية للنص او تهافتها وذلك لقدرته على الاختزال العلمي فالنقد لفظاً او جملة يعنى بتصور مفهومي يشكل مساحة من النص هي عبء ليس منه طائل اذا تحقق للنقد قدر من الشيوع فأي نص معني برسالة ابلاغية او بلاغية يمارس حقه المشروع في الاكتناز والكثافة حفاظاً على كيان صلد. لا يسمح بتسرب محتواه ولا بثغرات تفتح عليه سهام محور الاستبدال المنطقي فالنص على شغل دائم بتحقيق بنية مكتملة من الشمولية والتحول الذاتي او مرجعية النص بما هو عليه من التزام لقواعد اللغة والسياق. مواكبة الابداع اما الناقدة الدكتورة عفاف عبد المعطي فتقول لقد ظهرت موجة روائية على مستوى الوطن العربي مؤخراً، نظراً للاحداث السياسية والاجتماعية التي يعاني منها الوطن العربي مما يوفر مادة غنية للكتاب كي يأخذوا منها، والنقد الادبي الذي يمارس على هذه النصوص من الطبيعي الا يواكبها بدرجة وافية لان الناقد بشر ولا يمكن ان يكتب عن كل ما يقرأ ولا عن كل ما يظهر في سوق الكتاب فهو يعمل على انتقاء الاعمال الجيدة التي يمكن ان يطبق عليها منهجا نقديا متسقا معها ولا يتم لي عنق النصوص بمناهج نقدية خارجة عن مضمون هذه النصوص. وعن استيراد نظريات نقدية تقول ان المنظرين للنقد الان هم من ابناء العالم الثالث ولا غرابة في ان يتم استيراد النظريات ولكن اهم شيء عندما يتناول الناقد منهجا حديثا ان يتسق هذا المنهج مع النص الذي يقوم بالتطبيق عليه، وفي حالة عدم اتساقه مع النص يكون في ذلك إجحاف بالنص ولا يخرج الناقد بنتائج دالة على جودة النص ومن اهم النقاد الذين يطبقون هذا سعيد يقطين من المغرب وفيصل دراج من سوريا ومحمد القاضي من تونس ورشيد سليم من الجزائر ومعجب الزهراني من المملكة وسعيدة بنت خاطر من سلطنة عمان. عفاف عبدالمعطي