يغيب في ثقافتنا العربية فعل المكاشفة الراشدة ومواجهة الذات بشكل موضوعي ويتم التعويض عن ذلك بشيء آخر وهو لغة ( اللوم والتقريع ) وبملاحظة الخطاب الثقافي العربي في المرحلة الراهنة يمكننا ملامسة ذلك التهكم والتقليل ( للذات العربية ) أو لنقل شيوع نوع من التحقير للذات العربية مقارنة بأيام المد السياسي القومي الذي عمل على تضخيم الذات العربية على حساب المنجز التنموي أو بمعنى آخر كان هناك تضخيم كبير للمعنويات مع ضمور شديد في الإمكانيات. أما الخطاب السياسي العربي وبعد الهزائم المتتابعة فأخذ في دفع حالة من الإشادة بثقافة ( النكبة والكارثة ) وذلك بدءا ( بنكبة 1948م ) التي احتلت فيها قوات العدو الصهيوني الأرض الفلسطينية حيث علق المفكر القومي ( نديم البيطار ) بأن تلك النكبة تمثل نعمة، لماذا ؟ لأن النكبة كما يرى (البيطار) تمثل فتحاً لدورة تاريخية جديدة في الواقع العربي. وهكذا يستمر الخطاب العربي حتى هذه المرحلة وهو ينشد( النكبة / الصدمة) بل إن هناك اشتياقا من قبل بعض المثقفين للمزيد من الكوارث انطلاقاً من قناعة أن النكبة هي شرط للنهضة، ويمكن متابعة ذلك الخطاب حتى في سياق الحرب الأمريكية على العراق، فهناك من تمنى الهزيمة فصدمة الحدث تدفع الجثة الهامدة إلى شيء من الحراك !. اضطراب ما بعد الصدمة في عام 1980م أدخلت جمعية الطب النفسي الأمريكية عبارة ( PTSD ) وهو اختصار للمصطلح ( Post Traumatic Stress Disorder) أي اضطراب ما بعد الصدمة ، وذلك للدلالة على اضطراب نفسي خاص يتلو حدوث الصدمة، وبعد سبع سنوات عادت جمعية الطب النفسي الأمريكية وأدخلت بعض التعديلات على مفهوم اضطراب ما بعد الصدمة فذكرت أنه يستمر لفترة محدودة لكنه قد يطول ويصبح مزمناً، كما ذكرت الجمعية أن من بين السمات الرئيسية لاضطراب ما بعد الصدمة (التبلد الانفعالي) (Numbing ) ويظهر التبلد الانفعالي من خلال انخفاض الاهتمام بالأنشطة التي كانت في حياة المريض أي العزلة الاجتماعية، أو الانسحاب الاجتماعي وهو عارض إكلينيكي ! ولعل بعض المثقفين العرب قد استفاد من هذه النتائج والدراسات النفسية، نقول (لعل) ونذكر على سبيل المثال ما أشار أليه (جورج طرابيشي) في كتابه ( المثقفون العرب والتراث ) حيث عقد مقارنة بين الحملة الفرنسية على مصر ، وبين نكبة / صدمة حزيران 1967 م فمن وجهة نظره التي تعتمد التحليل النفسي أن الحملة الفرنسية تؤدي إلى اليقظة والانتباه ومن ثم الأخذ بالحداثة وتداعياتها، ويساند هذا التوجه أيضاً الكاتب القدير ( تركي الحمد ) في مقالة بصحيفة الشرق الأوسط بتاريخ 23/3/2003 م معلقاً على الاحتلال الأمريكي للعراق وايماناً منه بقانون الصدمة يقول : (ففي أحيان كثيرة يكون الوضع في هذا البلد أو ذاك في هذا المجتمع أو ذاك من السكون والجمود وثبات الحال إلى درجة فقدان الحيوية والحياة بحيث لابد من صدمة كهربائية قوية من خارج المجتمع العربي تعيد له الحياة والفاعلية الذاتية). أهمية الدراسات الإستراتيجية إسرائيل تعرضت هي أيضا إلى (نكبة صدمة) ولكن المثقف الإسرائيلي لم يدع إلى المزيد من الصدمات والنكبات ، لماذا؟ لن نقدم إجابة معلبة لذا دعونا نحفر بوعي ونتأمل كيف تعاملت إسرائيل مع تلك الازمة، فبعد حرب 73 ونجاح الجيش المصري الشقيق في عبور خط بارليف وتحقيق هذه القفزة العسكرية والنفسية المحدودة أخذ الصهاينة منذ ذلك التاريخ يدرسون تلك الحرب وكيف تمكن الإنسان العربي من تحقيق النصر وكيف تهيأت الإمكانات و القابليات للحرب وماذا يختبئ وراءها؟ ومن أهم وأبرز تلك العقول الإستراتيجية التي عكفت على دراسة هذا( النصر العربي) رجل كان يعمل وقتها رئيساً للاستخبارات الإسرائيلية وهو: (ياحوشوفات ها ركابي) وهو صاحب كتاب (The Arab mind) وهو كتاب جدير بالقراءة من قبل المثقفين و كل الساسة العرب، والذي جاء فيه: (حرب (73) يجب أن تنذرنا نحن المجتمع الصهيوني، بان أمة العرب رغم الإحباط والهزائم العسكرية والسياسية والاقتصادية، إلا أن هذه الأمة لديها قابليات قد تعرضنا نحن اليهود إلى مخاطر كبيرة جداً ولذلك لا يجب أن يكون الرد على حرب 73 من قبل الصهاينة بحرب مضادة (أي عدم رد الفعل النكبوي). بل ينبغي أن ندرس من الآن الشخصية العربية والعقلية العربية وسيكولوجية هذا الإنسان وأخلاقه ودينه). فانكب معهد تابع لجامعة تل أبيب اسمه (معهد جافي) للدراسات الإستراتيجية على مشروع ضخم بعد حرب العبور بهدف دراسة الإنسان العربي. (فها ركابي) يقول: ( إذا استمرت إسرائيل في مثل هذه الحرب لن تنتهي إلى شيء) وبعد سبع سنوات أي في عام 1980، خرج المعهد بدراسة اتخذها حزب العمل الحاكم في إسرائيل نموذجاً للتعامل مع العرب برئاسة رابين تفعيل التوصيات والنتائج وليس كما هو الحال لدينا حيث تموت الدراسات على الرفوف ) تلك التوصيات تقول: أولا_ العربي عجول: يريد أن يقطف الثمار سريعاً فإن كان في حالة حرب يريد نصراً سريعاً وإن كان في حالة سلام يريد قطف ثمار السلام سريعاً وإن كان في تجارة يريد الربح بسرعة حتى لو كان يكتب كتاباً بين يديه يريد الانتهاء منه بسرعة فهو ميكانيكي عجول متسرع ثانيا العربي ملول: لا يتمتع بالدأب والصبر والتمحيص والمثابرة - قصير النفس. ثالثاالعربي رومانسي: يميل إلى الأشواق والأوهام لذلك فهو مولع بالشعر والشعراء، لذا نلاحظ أن للشعراء مكانة كبيرة لأن الشعر يخاطب العواطف والخيال، والعربي يجد ذاته في الشعر. رابعا _العربي لا يقهر عسكرياً: لأن لديه الفخر والأنفة والكبرياء وهذه من ضمن كبريائه ومن هنا لا يجب أن نواجه هذا الكبرياء. ما نركز عليه في هذه السطور ليس صحة أو عدم صحة نتائج هذه الدراسة وإنما المهم في تقديرنا هو كيف نفسر ونتعامل مع الأحداث، بمعنى هل ندعو إلى المزيد من النكبات والصدمات (PTSD)؟؟ وفي الوقت نفسه نطرح السؤال الختامي التالي: هل الصدمة بحد ذاتها هي التي تؤدي إلى ظهور الاضطراب أم أن الاستعداد المرضي في الشخصية هو الذي يدفع إلى السقوط في الاضطراب؟.