بالبنط العريض وبلون مميز، كتبتُ فوق جدار يشهده القاصي والداني: لا أحد يقرأ في هذا المكان!!.. وكأني صرختُ بهذه العبارة بقوة.. لا أدري لماذا؟، لكنني وقفتُ منتصباً متنهداً انتظر إن كانت لها ردة فعل ما. حينئذ جاء إنسان عليه ملامح الغيرة، وناداني قائلاً: هأي.. لماذا هذا الحكم الظالم؟!!.. ألا ترانا نقرأ ونقرأ ونقرأ.. نقرأ كل شيء، والدليل أننا لم نغفل قراءة حُكمُكَ هذا؟. كذلك جاء ثان وعلى ضوء قراءته ما كتبتُ وقراءته رد الأول.. قال بجرأة وإهانة: إنه حكمٌ ساذج، سخيف؟.. ألا ترانا أننا نقرأ حتى كتاباتك التافهة، ومن ثم نمتدحك ونثني عليك؟.. لابد أن تغيِّر حكمك الغبي هذا. وهكذا جاء ثالث ورابع، ومائة، وألف... ذكوراً وإناثاً.. أمة تؤيد وتؤازر بعضها البعض.. لم أنطق ببنت شفة، بل وقفتُ منتصباً بجبين عارق وجسد مرتعش، شاعراً بأني قد دخلتُ منفرداً في ساحةِ حرب لا هوادة فيها. لم أنس أنني دائماً أُشعر نفسي بأني صاحب دواه عظمى، بالرغم من أنني خواف، وعليه عندما رأيت الجمهرة الغفيرة ضدي وشعرت بالغرق.. شجعت نفسي بأنه لابد أن أفعل شيئاً من دواهيّ إنقاذا لموقفي.. فكرت كثيراً، كثيراً، فخرجت بأنني لابد أن أجرب لهذا الموقف سياسة التفرقة.. أي تفرقة هذه الأمة من أجل أن يكون لي أنصاراً منها كما لكل خصم أنصار، بصرف النظر عن كمهم، ومن ثم أبدأ القتال بهم. من هنا بدأت العمل بالرغم من توجسي من النتيجة، قائلاً لنفسي: عليّ أولاً أن أخلخل القاعدة التي يرتكزون عليها أي خلخلة اتفاقهم الجماعي على معنى كلمة ( يقرأ) في عبارتي عن طريق إيجادي لها معنى آخر وإقناعهم به.. وجدت المعنى الآخر المفبرك.. وقفت قبالتهم وقلت: هدوءاً وصبراً يا قوم، لا تنزلوا على صاحبكم دون أن تفهموا معنى كلمة (يقرأ) التي أقصدها. فنصت الجميع عدا واحد قال ساخراً: هه.. وماذا تعني الكملة غير مافهمنا، هل ستتفلسف علينا؟.. هز الجميع رؤوسهم مؤيدين. فأجبت وأنا أستجمع أجزائي: لا، لن أتفلسف، بل الحقيقة أن لكلمة يقرأ معنيين لا واحدا فقط. وأولهما: القراءة العادية السريعة التي من شأنها أن تغري حالة الفضول لدى متناول النص لمعرفة مايحويه فقط بشكل عام دون أن يحرك له ساكنا أحياناً، وإن تحرك أحياناً أخرى، لا يقول عن النص إلا جميل.. رائع.. مميز.. مبدع، بينما لا يستطع أن يبين مواقع ذلك كله وهذه هي القراءة الساذجة. أما المعنى الآخر الأعمق للكلمة فهي: القراءة المتأنية الفاحصة الدقيقة الناتجة المفيدة على الصعيد الفردي والجمعي. وأنا لا أقصد إلا المعنى الأخير وليس الأول. قلت هذا بصرف النظر عن أنني (أخربط)، والتزمت بالصمت.. نظر بعضهم إلى بعض قليلاً، فنشأت بينهم همسات سرعان ما تحولت إلى صراخ ومشادات كلامية طويلة، ذاك مؤيد لي وذاك عكسه تماماً. شعرت بنجاحي في زعزعتهم.. تفرقتهم.. سريعاً رفعت يدي قائلاً: أيها القوم.. من يؤيدني، فليأت بجانبي، ومن لا يؤيدني، فليبقى مكانه، طلبت ذلك سعياً وراء معرفة مقدارهم. فما لبثوا أن أصبحوا شقين متقابلين، الأول أقل من الثاني. انفرجت أساريري لأنني أنقذتُ نفسي من موقفي الفردي هذا.. شكرتُ أنصاري، وقلت لهم: لاشك أنتم الفئة الواعية المسئولة المنتصرة، بالرغم من قولكم. قلت هذا لأجعلهم يتمسكون بي أكثر. حينئذ خطر بذهني بفئتي القليلة أن أنازل الفئة الثانية التي أوهمت نفسي بأنها عدوة لي، وأنا فرح متباه حامل شعار (كم فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله). لكني سرعان ماعدلت عن ذلك محدثا نفسي بألا أفعل هذا.. سياستي ليست ( سفك الدماء)، بل اكتشاف ردود الفعل وإثبات قوتي.. هنيهات من التفكير في الأمر.. خطر بذهني أن طلب من الفئتين ألا نبدأ النزال مالم يتعلموا ويتقنوا قوانينه.. ما أن أكملت عبارتي إلا وذهلت حينما رأيت الفئتين قد انشقتا فخرجت منهما فئة ثالثة وأخرى رابعة جاءتا خليطاً من مؤيديَّ ولا مؤيديَّ، وواحدة منهما أقل من الأخرى. الفئة القليلة، قالت: إنها تعلم القوانين جيداً وتعمل بها، لذا ستبقى معي.. الفئة الأكثر بكثير جداً، قالت: إنه لابد أن يؤجل النزال بعض الوقت لتتلقى القوانين من منابعها الصحيحة وستأتي بعد ذلك. الفئات الأربع اتفقت على تأجيل النزال إلى حين.. أزددتُ ذهولاً، إذ لم أر في حياتي أو اسمع فئات تتفق مع بعضها البعض.. ذهبت الفئات الثلاث، وذهب أنصاري معهم إلى الهدف المنشود.. لكن الذي أوصل ذهولي إلى منتهاه، هو أنه مرت الأيام تلو الأيام، ولم يأتِ أحد منهم أبداً. خمنتُ: ربما نسوا!.. ربما لم يجدوا القوانين، أو ربما لم يستطيعوا العمل بها!. أو أنهم تنبهوا أنني لست إلا رجلاً مثيراً للفوضى والجدل والمشاكل!!.. لكن هذا لم يرحني، مما أبقاني أبحث عن إجابة حتى الآن!!.