من يستطيع فهم تلك المرأة الغريبة..؟؟ جاءت من مكان لا نعرفه..! سكنت حارتنا الشعبية، اشترت أقدم بيت فيها..! أصلحت البيت.. جددته.. حافظت على شكله القديم، أصبح تحفة رائعة.. سيارتها الحديثة جدا، تلمع تحت الشمس، ولا تتناسق أبدا مع أزقة حارة ضيقة ممراتها، متسخة ساحاتها، مختنقة بالباعة الجوالين وبسطات الخضار والفاكهة والثياب المستعملة.. من يفهم المرأة؟ تنزل من سيارتها.. تدفع كتله دهنية عظيمة.. تجعلها مثل بالون منتفخ.. يمسك السائق الباب ويفتحه أقصى ما يستطيع، السيارة كبيرة واسعة، تنزلق المرأة منها برشاقة وخفة تناقض ما تحمله من تضاريس تشعر أنها قد تقع من جسمها. تسير المرأة في محاذاة البيوت المتهالكة، تسير ولا تتلفت. أهل الحارة ينتظرون يوميا هذا المشهد الذي يستغرق ثواني معدودات ثم تختفي المرأة في بيتها القديم المتجدد. لم يكن أحد يملك شجاعة كافية ليلقي التحية على المرأة، أو على الاقل ليسأل سائق السيارة عن السر الغامض.. أصبحت المرأة حديث الناس.. والناس في الحارات الشعبية يعرف بعضهم بعضا. يعيشون في بيوت كأنها من زجاج.. لذا كانت المرأة لغزا حقيقيا احتار به الجميع. مواعيد دقيقة جدا مثل رنات الساعات السويسرية الأصيلة، التي بات شباب الحارة يفتخرون باقتناء نسخ مقلدة منها، يتباهون بحملها. المرأة تأتي الى البيت مرة في الصباح وتخرج بعد ساعة، وأحيانا تأتي قبيل المغرب الى أذان العشاء، وغالبا يوم الخميس تمكث طوال النهار. احتار الناس.. لم يجرؤ أحد على الاقتراب منها.. كانت تحضر خادمتها معها، تأتيان معا.. يبقى السائق قرب السيارة منتظرا.. يمسح زجاجها وهيكلها.. يقرأ كتابا.. تسير المرأة محاطة بعلامات الاستفهام، لاتحرك رأسها، لا تتكلم ، تغيب بسرعة كأنها هاربة من شيء.. نسج أهل الحي البسطاء عن اللغز قصصا شعبية.. العم احمد صاحب جزارة اللحوم، أثرى رجل في الحارة، وأكثر اهلها حرصا على معرفة سر هذه المرأة.. زوجته ماتت قبل سنوات طويلة.. أولاده تزوجوا وخرجوا من الحارة، سكنوا العمائر الحديثة التي يقصدها المتعلمون خوفا من انكشاف انهم ابناء الحارات والأزقة والأبنية الشعبية.. العم احمد فكر بالمرأة عروسا له.. ببساطة ، بعد الستين: (لا بأس، سنها مناسبة جدا، تبدو شابة.. لكنها بالتأكيد جاوزت الأربعين، أظنها أرملة.. أكيد هي أرملة). ترتدي دائما الثياب الداكنة، صحيح انها غنية وتبدو ايضا متعلمة، لكن العم احمد اهم رجال الحارة، كلمته كلمة.. الكل يحترمه ويهابه.. الحاج فكري، حلال المشاكل، تصور المرأة غارقة في بحر من الهموم.. انها صيد لذيذ حبذا لو سقطت بين يديه ليكشف كل هذا الهم الذي يكسوها.. يريد فكري ان يزيل عن المرأة هذا الغمام، ويرى عينيها.. حاول مرة الاقتراب، منها نظر اليه السائق نظرة مرعبة.. تأمل عضلاته المفتولة.. قال في نفسه: (الهروب ثلثا المرجلة). نساء الحارة اصابتهن الغيرة من السيدة المجهولة بعضهن حاولن التلصص عليها من النوافذ المطلة.. لكنهن فشلن، لم تكن نوافذ البيت تفتح على الاطلاق، الستائر السميكة لم تكن تتحرك. حاول البعض اشاعة خبر: (المرأة سيئة السلوك.. تأتي بغرض المتعة الحرام). لكنها لم تتجاوز الأفواه، لم ير أحد رجلا على الاطلاق يدخل البيت.. حتى السائق كان لا يدخل أبدا.. ينتظر في السيارة مثل الحارس الأمين. الشباب تفتحت أذهانهن على احلام الزواج بسيدة قوية غنية، تلفها الاسرار والالغاز.. الاسم لا يهم، النسب لا يهم، المهم انها تملك سيارة فخمة وبيتا رائعا في حارتهم الشعبية الفقيرة.. سوف يصبح سعيد الحظ سيد الحارة بلا منازع. شيوخ الحارة تأسفوا على ضياع شبابهم.. تحسروا لانهم لم يلتقوا سابقا بهذه المرأة الغريبة الآتية من المجهول.. وراحوا يتمنونها لاولادهم. الصغار فرحوا بالسيارة الفارهة، ينتظرونها كل يوم.. يدورون حولها.. يركضون وراءها.. يغنون ويرقصون ويصفقون.. السيارة بالنسبة لهم عيد يومي.. بل صارت كرنفالا مجانيا يسرحون فيه ويمرحون. الجميع بلا استثناء كان مشغولا بالمرأة الغامضة. المرأة وحدها لم تكن تفكر بأحد.. كان فكرها مشغولا بشيء آخر.. لا تزال تذكر هذه الممرات والازقة والبيوت المكدسة فوق بعضها.. يوم كانت طفلة.. يوم طردها واسرتها صاحب البيت لانهم لا يملكون دريهمات قيمة ايجار غرفة رطبة في اسفل المنزل تحت الارض، كانت تستخدم كمخزن للاشياء المهملة.. عادت المرأة لتتذكر ماضيها.. عادت غنية.. بل غنية جدا.. الناس لايعرفونها، فكروا بكل شيء، الا ان تكون ابنة الرجل الفقير الذي كان يسكن الغرفة الرطبة البعيدة عن الشمس والهواء قبل نحو ثلاثين عاما. لكنها ما عادت لتسكن البيت.. بل لتسكن ماضيها الأليم.. لتدفن تشردها واهلها سنوات فوق الارصفة، دون ان يسأل عنها وعن اهلها احد. لا العم احمد ولا الحاج فكري ولا حتى واحدة من نساء الحارة، او شاب من شبابها او شيوخها كما يسألون عنها اليوم ل (سبب).. كانت ابنة ذلك الفقير، ابنة رجل لا يملك شراء لحمة من جزارة العم احمد، بل كان يبحث عنها في حاوية القمامة. ولا يملك ثمن خياطة ثوب عند الحاج مرعي.. ولا شراء فاكهة من بقالة الكرم.. لم تبدد المرأة الغامضة أحلام حارتها.. لم توقضها من نومها الطويل.. لم تشتر المنزل الكبير لتسكن فيه، بل كانت تأتي لتلقي بنفسها دقائق معدودات في سريرها القديم.. في الغرفة الرطبة التي لا يصلها الهواء ولا الشمس.. ظل أهل الحارة يتكلمون ويتكلمون ويتكلمون.. وظلت المرأة دفينة أسرارها وغموضها.