كلامه بدا مستغربا وأثار في داخلي الكثير من التساؤل والتعجب؟ ولم أخف ذلك حينما أبلغته أنني غير مصدق لما قال: أمعقول كانت هنا آبار ومراعٍ، هل كانت المسطحات الخضراء تملأ أرضا لا يفصلها عن البحر سوى أمتار؟ لكن حينما تدخل رفيقاه، وأكدا الرواية أجبرت على الإنصات لهم جميعا، فمن سكن هذا الموقع كانوا أصحاب مواشٍ لوفرة المراعي القريبة، سكان تلك (العشش) والقادمون من الجنوب كانوا يربون تلك الأغنام والإبل، فالسمن والجبن وكل المنتجات الحيوانية كانوا هم (الدلالون). هكذا ردد ثلاثتهم، وهكذا أمنوا على الحكاية، حكاية (بني مالك) أعرق أحياء جدة، فماذا قالوا؟ أصدقاء الزمن الجميل في زاوية منزل ترخي حيطانه بظلالها على المكان، كان ثلاثتهم يجلسون على كراسي الخشب، كانوا صامتين كل واحد منهم مستغرق في حديث لا نهاية له مع نفسه، توقفت طويلا أراقب جلوسهم الصامت، بين لحظة وأخرى كانوا يرمقون المارة بنظرات عابرة، أحدهم كان يجلس القرفصاء على ذلك الكرسي في الوقت الذي كان يقطع عامل البقالة المجاورة مساحة هدوئهم بالسير من خلالهم، ليلقى بكيس أو ليبحث عن مشتر خرج من بقالته ونسي بعض الأغراض. عامل البقالة لم يكن يسألهم أو يتحدث معهم، ويبدو أنه قد تعود جلوسهم في ذلك المكان، عندما استمر الموقف بتلك الصورة دارت في ذهني الظنون، وبادرتهم: ما الأمر لا حديث ولا كلام، إذا لم تجتمعون في هذا المكان وفي هذا الوقت؟ ابتسم الذي كان يجلس القرفصاء، وقال: نحن أكثر من أخوة، وبيننا من المحبة ما لا تجده في هذا الزمن، نلتقي يوميا لنتفقد بعضنا، ولا علاقة لنا فيما لا يعنينا نجتمع من باب المحبة ونفترق على هذه المحبة. هكذا قال عبدالله عباد المالكي (72 عاما) الرجل الأكثر من رائع، وأجاب عن تساؤلي عن (بني مالك) كاسم قائلا: بني مالك يرجع في الأصل إلى أولئك اللذين قدموا من الجنوب، واستقروا في هذا المكان، و هذا يعني أن سكان هذا المكان لهم جذور وأصل بالجنوب. مزارع و آبار هؤلاء الناس اختاروا هذا الموقع الذي كان خارج أسوار جدة، لأسباب منها أنهم كانوا أصحاب مواشٍ، و لم يكن لهم علاقة بصيد السمك أو البحر، هم أصحاب براري وحينما استقروا هذا الموقع اختاروه لوفرة المراعي. قاطعته: هذا يعني وجود آبار مياه حلوة أيضا. تدخل رفيقه صالح بن سعيد المالكي (80 عاما) قائلا: نعم كانت هناك أكثر من بئر حلوة، يعتمد عليها سكان بني مالك وأهالي جدة أيضا للشرب. العسيلة من آبار جدة كانت هناك بئر مشهورة ومعروفة بعذوبة مياهها تسمى ب(العسيلة)، وكانت المياه تجلب بواسطة (الصفائح) التي تحمل على ظهور الجمال، فالجمل الكبير كان يحمل عليه ثمانية صفائح، بينما الصغير فلا يتحمل سوى ستة صفائح، وكان بائعوا المياه يصيحيون بأعلى صوتهم وهم يجوبون الشوارع، «مياه العسيلة .. مياه العسيلة» لشهرة هذه البئر، وكانت تقع في الحي المعروف الآن ب(الوزيرية) أي جهة حراج السيارات، وكانت هناك آبار أخرى قريبة من بني مالك من الشرق، وفي الحي المسمى حاليا ب(السليمانية) وأشهرها بئر (تنيضب). يتدخل دخيل عبدالله المالكي (80 عاما): لا تنسى بئر موسى في موقع سجن الرويس قديما، و بئر نسيان في سوق المساعدية حاليا، وأبو بصيلة وغيرها، المهم أن الآبار التي تقع جهة الرويس جميعها كانت تعتمد على السيل، فحينما يأتي السيل من الشرق كان يعبئ الآبار، ولهذا كنا نفرح بالسيل لأنه يوفر كميات من المياه الصالحة للشرب، ولم يكن السيل ينقطع، وكثيرا ما كان يأتي (منقولا)، أي أن الأمطار هطلت في أماكن بعيده و يتدفق السيل من تلك الأماكن متجها صوب البحر، فيمر بنا. ويضيف دخيل المالكي: أما بخصوص المزارع التي تحدث عنها (عبدالله)، فهذا الكلام صحيح وكانت مزارع الحب والدخن والحبحب والخربز على امتداد شارع فلسطين ولغاية بريمان الآن، وأقصد الجهة الشمالية لحي بني مالك، وكان شارع فلسطين متنفسا لكثرة المزارع. وبالنسبة لسكان بني مالك، فبالرغم أنهم كانوا يربون الأغنام، إلا أنهم عرفوا بأنهم المتخصصون في كل ما يأتي من القرى والضواحي من المنتجات الحيوانية، بالذات السمن واللبن والجبن والتمور، كانوا وحدهم المتخصصون في الحراج عليها أو الدلالين لبيعها، فلا يمكن أن تجد الذي يحرج من غير سكان بني مالك، وهؤلاء السكان حينما قدموا أقاموا بيوتهم من (العشش) التي كانت تبنى من سعف النخيل، ثم حينما تطوروا شيدوا بيوتهم من الحجر البحرى المسمى ب(المنقبي) وهو من أحجار البحر حيث كان يستخدم معه (اللبن) بدلا من الأسمنت حاليا. ورثنا أخلاقنا يقاطعة العم صالح قائلا: كانت قلوبهم أوسع من مساحة البيوت التي يسكنونها، فما يكاد أحدهم يغيب عن الصلاة في المسجد، إلا ويجد الجميع يتجهون إلى بيته ويتفقدون حاله ويطمئنون عليه، وكذلك بالنسبة لموقفهم مع الأيتام والأرامل، فهولاء لا يمكن أن يشعروا بأي جانب من جوانب العوز أو الفاقة، فالجميع رغم عوزهم وضيق حالهم يؤثرون على أنفسهم عندما يكون الوضع يختص أرملة أو يتيما، تجده يحرم أطفاله من أجل أن يكسو أو يطعم أرملة أو يتيما، والكثير من الأخلاق الرائعة والفاضلة يتوارثونها، وما عرفوا ذلك نتيجة علم أو دروس. مسجد ال 400 عام يعود (صالح بن سعيد) قائلا: بني مالك من أقدم أحياء جدة، وفيها مسجد له ما يقارب 400 عام تقريبا، وقد وثق هذا التاريخ عليه باللوحة التي وضعت على باب المسجد من قبل وزارة الشؤون الإسلامية، حينما جددته، وذكرت أن هذا المسجد تم أنشاؤه في العهد العثماني، وهذا يؤكد مدى عراقة الحي وقدمه. أسماء الشوارع ألغاز وفي جولة على الحي كانت البداية من أسماء الشوارع والأزقة، فهي لا تختلف عن أسماء وبقية الشوارع في جدة تلك أسماء مغمورة ورموز غامضة وكالعادة (ش4 -1غ4)، وهكذا وبالتالي لن أتوقف كثيرا عند هذه الأسماء وتلك الرموز اللغز، والتي لا فائدة منها عدا كونها مجرد مشروع نفذ وكفى، هناك ما هو أهم من تلك الأسماء وتلك العناوين الجوفاء. نظافة ونفايات ما يلفت النظر، مشاهدة مستوى النظافة الذي يتفاوت من جهة إلى أخرى، فمن الطبيعي أن تجد أن هناك عاملا مجتهد في أداء عملة، يتولى التنظيف بصورة جيدة في هذه الزقاق أو الشارع، لكن في الشارع المجاور تبدو كميات من النفايات تتراكم بصورة مقززة. بعض السكان قالوا: هذه النفايات منذ يومين، وهي بهذا الحال لم يأت أحد لنقلها. ومن الطبيعي مشاهدة بعض أصحاب المهن من العمالة، قد استولوا على الشوارع أو الأزقة المجاورة لمساكنهم، ووضعوا فيها بعض معداتهم أو بقايا مهنتهم من قطع حديد أو أخشاب، لكن المستغرب أن هذا الحي مهدد بكارثة في يوم ما، بوقوع حريق لكثرة الأحواش التي يستغلها بعض المقاولين أو البنائين، ليضعوا فيها أخشاب السقالات والبناء، وهذه الأحواش لصيقة تماما للمساكن، كما أن وجود بعض المستودعات الخاصة ببعض المحال التجارية غير بعيد عن ذلك، والمؤلم أن تلك البيوت الشعبية التي تقطنها العمالة، هي الأخرى تحولت إلى مقر لسكناهم، وفي نفس الوقت مستودعا لمعدات مهنهم. أما حبال الغسل الخاصة بالملابس وتنشيفها مشهد لا يغيب، فما تكاد تدخل شارعا داخليا إلا وتجدها موزعة هنا وهناك، بينما وضعت بعض الصناديق أو الكراتين بجوار أحد الأبواب أو النوافذ،أحدهم أظهر عدم معرفته بمحتوياتها، إلا أنه قال: هذه صناديق أو كراتين ربما سيتم أو لعلها سوف تستخدم في عملية الشحن البحري عند المغادرة. كراتين خضراوات مشبوهة لكن ذلك الوافد المعمر لم يتردد في الصراخ، حينما شاهدني وزميلي المصور نتفقد مجموعة الكراتين التي وضعت تحت سيارة يبدو أنها متوقفة منذ زمن، صرخ بغضب وهو يركض نحوي لمجرد أنني سحبت أحد الكراتين، لأجد أن ذلك الكرتون وغيره يحتوي على خس وملفوف وكرنب وحزم كزبرة، هكذا تم تخبئتها تحت السيارة، وهكذا وضعها الوافد مكشوفة في ذلك المكان. حينما سألته قال: «إنها للغنم» ورغم أنه حرص على الابتعاد وهو يردد ذلك، إلا أنه كان يناور، فقد توارى خلف إحدى السيارات وظل يراقبنا باختباء!. شبكة المياه لا يواجه السكان معاناة نقص المياه، وبعضهم يعيد هذا التميز، بأن الحي قديم حظي بشبكة للمياه منذ ذلك الوقت، بل حتى الانقطاع يكاد يكون نادرا كما قالوا. ويبدو أنهم لم يخطئوا في قدم الحي، فبعض البيوت الشعبية تعاني من تآكل حيطانها واهترائها، ومع ذلك يمكن أن وجود بعض أسقف تلك البيوت محملة بالكثير من الأخشاب والمعدات التالفة والنفايات القديمة، أما الجزء الجنوبي من الحي، حيث توجد حديقة النخيل أو الدوم، فلا مجال لتوصيفها بالحديقة، كونها مساحة ترابية يتوزع فيها ذلك النخيل الذي تتناثر حوله بعض الأعشاب البرية.