تخيل مؤسسات يمنح فيها الرؤساء موظفيهم حرية كبيرة لتقرير ما يقومون به ومتى. تخيل أن تختار مديرك، أو أن تصوت على قرارات تخص المؤسسة. وتخيل أيضا مؤسسات لا يكون العاملون فيها موظفين منتظمين على الإطلاق، بل محترفين يعملون بالقطعة ويرتبطون إلكترونيا بالمؤسسة، ويعيشون في أماكن متفرقة من العالم. تخيل هذا الكم من الحرية في عالم الأعمال وأثره على حرية اختيار الأفراد لعيش حياتهم كما يحلو لهم. التقدم التكنولوجي، خاصة انخفاض تكلفة الاتصالات عبر العالم، سيساعد على إحداث تغييرات جذرية في المؤسسات. في كتاب "مستقبل العمل" لمنظر المؤسسات الشهير توماس مالون، الذي يعمل مديرا لمبادرة "اختراع مؤسسة القرن الحادي والعشرين" التابعة لمعهد ماساشيوستس للتكنولوجيا، يوضح المؤلف أن هذه الخيالات بدأت في التحقق بالفعل اليوم والآن. وستتفاقم هذه الظاهرة وتزداد في المستقبل. ويعضد مالون وجهة نظره تلك بأن التقدم التكنولوجي، خاصة انخفاض تكلفة الاتصالات عبر العالم، ستساعد على إحداث تغييرات جذرية في المؤسسات. كما سيساعد ذلك على الحصول على أفضل ما في العالمين لأول مرة في التاريخ: حجم وكفاءة المؤسسات الكبيرة، والمزايا الإنسانية للمؤسسات الصغيرة من حرية وحافز ومرونة. ومن خلال خبرته الممتدة لعشرين عاما من الأبحاث، يقدم مالون نماذج قوية وجديدة لتصميم شركات المستقبل، تتضمن: * أربعة هياكل مؤسسية لا مركزية، تتبع نموذج الهرم الإداري الأفقي، تمكنها التكنولوجيا، مع التمسك بالقيم الإنسانية الخالدة. * الانتقال من أسلوب الإدارة بالأوامر والطاعة، إلى أسلوب التنسيق والتطوير، والمهارات الضرورية المطلوبة للنجاح في بيئة العمل هذه. ويعني ذلك ترك الحرية للعاملين لاستخدام مواهبهم كيفما يروق لهم، مع توصيلهم بمصادر المعلومات المطلوبة، وتحفيزهم بالشكل المناسب. * إطارا لتحديد ما إذا كان وضع الشركة يسمح بتطبيق اللامركزية، وأي الهياكل التنظيمية أفضلها وأكثرها فاعلية. ولمالون باع طويل في استشراف المستقبل علميا. فهو يقيم توقعاته على أنماط تاريخية سابقة وملاحظاته حول التوجهات الحالية، خاصة في عالم الأعمال، وتطوراتها المستقبلية. فقد توقع مثلا عام 1978 - قبل أن يدخل الانترنت كل بيت - بأن بيع وشراء السلع والخدمات سيتم الكترونيا، وأن العديد من الخدمات والمهارات سيتم استئجارها بصفة مؤقتة ولمدة المشروع فقط، من أصحابها. وبذلك ستتمكن الشركات من الحصول على أفضل المهارات والمخرجات بأقل تكلفة ممكنة، لأنها تستقي هذه المهارات من محيط أوسع بكثير من مجرد العاملين في شركاتها. ثم جاءت نكسة الانترنت وشركات الدوت كوم - كما أطلق عليها - في التسعينيات، لتضعف هذه النظرية ولا تبشر بتطبيقها. وكان تفسير مالون لتلك الظاهرة حينئذ أن نظرياته وتوقعاته لم تكن خاطئة، بقدر ما كانت مبكرة وسابقة لعصرها. يبدي المؤلف إعجابه الشديد بموقع إي باي لأنه يمثل مثالا جيدا لتوقعاته وللشركة المستقبلية التي يرسم تصميمها. وكذلك بالشركة الأسبانية "موندراجون" التي تعيش أجواء ديموقراطية من انتخاب للرؤساء والتصويت على الموضوعات الهامة. لكنه يعترف بأن هذه النماذج في مراحلها الأولى، وأنها لا تصلح للمواقف أو الشركات التي يتطلب مجالها سرعة في اتخاذ القرارات. يستعرض المؤلف أيضا مصطلح " مفارقة السلطة". ويعني به أنه كلما وزعت المؤسسة سلطاتها على العاملين، ازدادت قوة وسطوة. فالنظام الديموقراطي - إذا تم بشكل سليم داخل الشركات - يولد قوة ونظاما، وليس فوضى أو تشتتا وضعفا. كما يناقش أيضا المفهوم القديم الحديث "لنقابات التجار والصناع" الذي بدأ في العصور الوسطى بين الحرفيين، وأصبح يطلق اليوم على مجموعة من المحترفين - سواء من نفس المهنة أو من مهن مختلفة - يعملون معا في مشروعات معينة، ويساندون بعضهم بعضا، بتزكية أسماء بعضهم في المشروعات، وتكوين ما يشبه الشراكة المرنة فيما بينهم. يعترف المؤلف أن أسلوب العمل هذا لا يناسب كل الشركات ولا الأشخاص. لكنه أسلوب جديد يمنح الأفراد والشركات التي تتبعه ويناسبها مزايا عديدة جديدة، بجانب تحقيق نتائج رائعة على مستوى الأعمال وبيئة العمل.