يلقون بهم في الأزقة، أو في الشوارع، أحياناً أمام المساجد والمؤسسات، وإذا أخذتهم الرحمة يضعون بجانبهم علبة حليب، ويغادرون المكان مسرعين، تاركينهم للمصير المجهول. انهم الأطفال اللقطاء أو مجهولو النسب والهوية، الذين يولدون نتيجة لعلاقة محرمة، يحرص أصحابها على إخفاء نتائجها بأية طريقة، غير آبهين بالجريمة التي ارتكبوها. بعد أن رووا غرائزهم في لحظة استدرجهم فيها الشيطان والنفس الأمارة بالسوء، فكانت لحظة وبال على الإنسانية والطفولة البريئة الجميلة والعقيدة الإسلامية. فهذه الطفلة التي نهشتها القطط، بعد أن تركتها سيدة مجهولة، بجانب إحدى حاويات القمامة، وذلك الطفل الذي وضعته سيدة أخرى أمام أحد المنازل، وقرعت جرس الباب قبل أن تتوارى عن الأنظار. وإلى جانب هذه القصص يتحدث المواطنون عن قصة الفتاة التي وضعت طفلا أمانة لدى أحد الفتيان، الذي كان يلعب في الشارع، ووعدته بأن تعود بعد دقائق، لكنها لم تعد. قصص كثيرة يمكن سماعها من ألسنة المواطنين والمعنيين بأمور هؤلاء المساكين الأبرياء, وهم إذ لم يعانوا من تشوهات خلقية، نتيجة سوء ظروف الحمل والوضع، فهم يعانون كونهم أطفالا (مجهولي النسب)، أو كما يطلق عليهم البعض أطفالا (لقطاء) لا يعرفون أمهم أو أباهم الحقيقيين. أمراض نفسية وجسدية ونتيجة الحمل والولادة غير الطبيعية هناك أطفال مجهولو النسب يعانون إعاقات حركية، وآخرون يعانون نقصا في الذكاء، إضافةً إلى عدد آخر يعاني إصابات عضوية، يتم علاج بعضها، وبعضها الآخر لا يزال تحت العلاج، ناهيك عن التأثيرات النفسية الحادة عند بعض الأطفال، التي تعالج من قبل أطباء نفسيين. وتقول إحدى الباحثات التربويات في هذا المجال: مهما بلغت مستويات العطاء والرقي الذي توفره أي مؤسسة ينتقل إليها الطفل اللقيط، فإنها لن تكون بمستوى العطاء والرقي الذي تقدمه له بيئته الاجتماعية النموذجية والصحية.. بيئة الأسرة وأحضان الوالدين. البحث عن العيد يوم الأم، يوم الميلاد، شهر رمضان المبارك، عيد الفطر السعيد، بداية العام الدراسي، وغيرها من المناسبات والأيام، التي يسعد بها ويبتهج لها الصغار والكبار، كيف يقضيها أطفال حرموا من أحضان الأم ورأفة الأب؟! سؤال وجهناه إلى إحدى الأخصائيات التربويات العاملات في إحدى المؤسسات الاجتماعية، حيث قالت: نحن نعيّدهم.. وأضافت: توفر المؤسسة الاجتماعية لأطفالها ما يحتاجونه من زي جديد كامل وهدايا وألعاب وعيديات ورحلات إلى مختلف المناطق التي يرتادها الأطفال في العيد. وفي محاولة لإدخال البهجة إلى نفوس الأطفال وإحداث التغيير وإبراز مظاهر العيد والفرحة يتم تعليق الزينة، وتوزيع الكعك والحلوى، ويأتي الزوار والوفود ليعيدوا على الأطفال ويشعروهم بالألفة والمحبة. الانحدار إلى الهاوية ضعف الوازع الديني والأخلاقي، وقصور أساليب التربية السليمة عند بعض الأسر من أهم الأسباب التي تؤدي إلى الانحدار إلى هاوية هذه الجرائم المعادية للدين وللإنسانية. ويعيد علماء النفس والاجتماع جذور هذه الظاهرة إلى قصور التربية الأسرية الصالحة، وضعف الثقافة الدينية، وعدم وجود رقابة اجتماعية على الأفراد والجماعات والتنظيمات المختلفة، وكذلك ما تبثه بعض وسائل الإعلام من برامج غير هادفة. وعن البعد النفسي وهو إحساس اللقيط بعدم وجود أب أو أم له كغيره من الأولاد، الأمر الذي يحرمه من التكيف الاجتماعي مع مجتمع يرفضه، لجريمة لم يكن هو طرفاً في اقترافها. ويشير علماء النفس إلى وجود العديد من الآثار السلبية الخطيرة التي تتركها هذه الظاهرة على الطفل، خاصةّ عند كبره وأهمها الانطواء، وعدم المشاركة الإيجابية في المجتمع، والشعور بالعزلة والخوف من المجتمع، والنقمة عليه، إضافةً إلى حب الانتقام. مساهمة الجميع.. للمواجهة وحول بعض الطرق التي يمكن من خلالها تخفيف حدة هذه الظاهرة يؤكد العلماء على تكاتف القوى المؤثرة في الحياة الاجتماعية والتربوية والثقافية في المجتمع، ليحمل كل منهم على عاتقه مسؤولية حماية المجتمع من الفساد القيمي والأخلاقي للأمة، كما يؤكدون على تعزيز المناهج والبرامج التعليمية والإعلامية بالمفاهيم الأخلاقية. ويضيفون: التربية السليمة ضمان الحل الأمثل لمثل هذه الظواهر في المجتمع، حتى لا تزاد معاناة جديدة إلى قائمة لا تنتهي من المآسي وأوجه المعاناة، فهلا تحمل كل منا مسؤولياته بأمانة واقتدار، منعاً لاستفحال مثل هذه المشكلات المجتمعية. نفس محترمة ويؤكدون أن اللقيط نفس محترمة في الإسلام، تستحق الحفظ والعناية والرعاية.. مشيرين إلى أن مضيّعه آثم، ومحرزه غانم، لما في إحرازه من إحياء للنفس، يقول سبحانه وتعالى (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً)، وقال عليه الصلاة والسلام (من لم يرحم صغيراً، ولم يوقر كبيراً فليس منا)، وفي رفعة وحضانة الطفل اللقيط إظهار الشفقة، وهو أفضل الأعمال بعد الإيمان كما قيل. والإسلام يعتبر اللقيط جزءاً من المجتمع الإسلامي، لا يجوز تعييره، ولا النظر إليه باحتقار، ولا ازدراء، لأنه لا ذنب له، فالطفل اللقيط قد يصبح أفضل إنسان مستقبلاً، وعلى المجتمع معاملته معاملة حسنة. وجريمة والدي الطفل اللقيط لا تلحقه، فالجرائم هذه لا توّرث، فإذا أجرم شخص فهذا لا يعني أن ولده يصبح مجرماً مثله، فهذه أشياء وصفات مكتسبة لا تورث. وبخصوص المرأة أو الرجل الذي يلقي بولده في شارع أو مكان آخر، للتخلص منه بعيداً عنها أو عنه، ويموت نتيجة لذلك فهو قاتل نفس محترمة. إعادة ميلاد (احمليه.. احضنيه.. أرضعيه).. تلك هي أولى ما يُوصي به الأطباء الأم عقب الوضع، كما أكد الدكتور نبيل دخان طبيب علم النفس.. مشيراً إلى أن ذلك يجعل الطفل يشعر بالأمن تجاه العالم الجديد، الذي يخرج إليه. يقول الدكتور دخان: الطفل يُولد ككائن بيولوجي، يتلقى الرعاية والعناية والغذاء الجسدي والروحي من أمه وأسرته، التي تشكل المؤسسة الاجتماعية التي يتشرب منها الثقافة والعادات والتقاليد.. مضيفاً: عندما يولد الطفل فلا يجد من يرعاه أو يحتضنه، فإن ذلك يولد القلق وبذور الاعتلال النفسي بداخله، ويجعله يخاف المستقبل، وتتولد لديه مشاعر الغربة والاغتراب، وتصبح شخصيته (سيكوباتية)، أي معادية ومضادة للمجتمع، وعدوانية، وينزلق في متاهات الانحراف والخطيئة، خاصةً أنه يبحث عن ضالته فلا يجد من يسأله أو يشبع رغباته، إضافة إلى شعوره بالانتقاص والدونية وانعدام الثقة بالنفس، وقلة المبادرة حتى عندما يريد أن يتكلم، ذلك أنه يخشى أن يُصدم أو يُسأل من أنت ومن أبواك؟ شخصية عدوانية وأكد الدكتور دخان أن شخصية الطفل اللقيط لا يمكن أن تكون سوية حتى بينه وبين نفسه، فمهما تعاظمت شخصيته سيشعر بأنه لا نسب له، وأنه مجهول الهوية الشرعية، مما سيضطره إلى أن يظلم المجتمع كله، ويصبح متشدداً تجاه الجميع، خاصةً أن عدوانيته ستكون متجذرة في البنيان النفسي، وشبكيته النفسية دائماً معتمة ومظلمة. وتساءل دخان: كيف يمكن للطفل اللقيط أن يشعر بالأمان وحبه ومحبته للآخرين، وهو لم يعش لحظة حنان واحدة منذ أن ولد. أما عن وجود مجموعة من اللقطاء في كنف بيت واحد، أو مؤسسة واحدة، فأوضح أن ذلك يخفف عنهم قليلاً، ويبدد أوجاعهم، طالما بقوا مع بعضهم البعض.. مشيراً إلى أن لحظة الألم هي عند خروجهم إلى المجتمع، ونظرة المجتمع لهم، رغم أنه لا ذنب لهم.. معرباً عن أسفه في عدم مراعاة المجتمع لهؤلاء الأطفال، وتقبلهم دون نفاق أو لفظ.. منوهاً إلى أن بعض الأطفال اللقطاء يُسمون باسم محمد مثلاً، إلا أن البعض يناديهم ب (محمد اللقيط). انحراف شامل ونوه إلى أن الخطورة في هؤلاء الأطفال لا تكمن في عددهم، بقدر ما تكمن في عدم وجود اهتمام مجتمعي تجاه هذه الظاهرة، حتى لو على صعيد طفل واحد.. معتبراً أن هذه الظاهرة تدلل على وجود انحراف اجتماعي وخلقي وعقائدي في المجتمع. معزياً أسباب هذه الظاهرة إلى ضعف الوازع الديني، وانشغال الآباء والأمهات بأمور الحياة والماديات، والثقة الزائدة بالأبناء .. مشدداً على ضرورة أن تقوم كافة الجهات والمؤسسات المعنية، وعلى رأسها الأسرة والمدرسة والمسجد ورجال الدين، بدورهم الاجتماعي والتوعوي، لمنع حدوث هذه الظاهرة، والعمل على تقوية الوازع الديني لدى أفراد المجتمع، والتنبيه إلى الدور الهام الذي تلعبه الأسرة في اقتلاع مثل هذه الظواهر من جذورها. وأفاد بأن معالجة الطفل اللقيط نفسياً تتطلب فترة طويلة، إذ أنه يحتاج لإعادة ميلاد، وتشكيل شخصية من جديد، وتأهيل فكري وقيمي، ناهيك عن تغيير الصورة النمطية عنهم لدى المجتمع.