العنوان السابق يستبطن شيئا من التهكم على النزعة الاستهلاكية والرغبة الجامحة لامتلاك المال ضمن المشروع المصاحب للعولمة في الوقت الراهن. والعنوان يتماهى أيضاً مع ما ذكره المفكر الإسلامي (روجيه غارودي) عندما تأوه مشمئزاً من تلك الأطراف التي لاتؤمن بشء سوى المال؟ هنا نرغب أن نسلط الأنوار الكاشفة على ظاهرة آخذة في الانتشار الكاسح وتتصل بعملية خلط الثقافة بالمال في البرامج التلفزيونية ضمن محاولة لاستقطاب الجماهير الشعبية الواسعة إلى الشاشة الصغيرة. فعندما يجلس (المواطن) المنهك من عناء العمل الشاق وكسب قوت العيال أمام الشاشة بهدف ا لراحة والتسلية البريئة، يتفاجأ بالمال وهو يخترق إدراكه ووعيه المسترخي فيعيد تنشيطه من جديد لكي تتحرك في وجدانه غريزة التملك والربح. علماء نفس الإعلام دائماً يفكرون في طرق جذب أكبر عدد من الناس عبر برامج الألعاب والتسلية فوجدوا في المال وسيلة لإزاحة الرتابة عن البرامج المملة فابتكروا طريقة جديدة تقوم على معادلة سمعبصرية بحيث يتم تفعيل دور المشاهد السلبي؟ نعم لقد كانت البرامج قديماً تقوم على أساس مرسل ومستقبل أي علاقة باردة أو أحادية الإتصال بين المشاهد البارد حسياً وذهنياً من جهة والجهاز التلفزيوني المعبر عن الصور الناطقة والمتحركة من جهة أخرى. لكن القفزة الجديدة في عالم التلفزيون تمثلت في بناء جسر يربط بين العنصرين (المشاهد والتلفزيون) فتحول المشاهد التلفزيوني من مجرد مشاهد للبرنامج يبث أمامه إلى شريك أي أن عملية المشاهدة لغمت(من حيث لا نعلم) بمشاركة لسنا طرفا في تصميمها وإخراجها ولكننا شركاء في تنفيذها؟ هذا الإنقلاب في علاقة الناس بالتلفزيون دشن خطورة إضافية وقوة خارقة لهذا الجهاز الصغير حيث أن المتنفذين والمتحكمين في هذه الظاهرة المعرفية المبتكرة أعطتهم القدرة على طرح القضايا وتوجيه الأنظار إلى ما يرونه هام وضروري؟ وهو تحول هام للغاية في تقديري وذلك على الرغم من تسالم أو استسلام الناس أمام هذه الظاهرة. وقد ساعد دخول المال على إنقاذ البرامج الجافة (التسلية والثقافة) فكان بمثابة العنصر المغذي والأكثر إثارة في تحقيق الكمال للبرامج الجديدة وعلى الأخص عندما تشتد فصول الربح والخسارة وتتصاعد من خلال التفاعل مع الشركاء المتواجدين في داخل الاستوديو. (يجب ملاحظة درجة تفاعل المشاهدين!) والحقيقة أن الأمل قد راودنا في أن نستقطع جزءا من وقت تلك البرامج كفاصل إعلاني وتستدعي الحكمة القديمة التي تقول أن المال: يستطيع أن يشتري السرير، ولا يستطيع أن يشتري النوم.. يستطيع أن يشتري الكتب، ولا يستطيع أن يشتري العقول.. يستطيع أن يشتري الطعام، ولا يستطيع أن يشتري الشهية.. يستطيع أن يشتري الحلي، ولا يستطيع أن يشتري الجمال.. يستطيع أن يشتري الدواء، ولا يستطيع أن يشتري الصحة.. يستطيع أن يشتري التسلية، ولا يستطيع أن يشتري السعادة. لكن هذه الأمنيات الصغيرة لا تستطيع أن تقف أمام آلية إعلامية جبارة يقف وراءها رجال أعمال من أباطرة الأثرياء في العالم . والمؤسف أن هذه الفضائيات قد تمكنت من القيام بفعلين مراوغين في آن واحد: أولهما تحريك شهوة التملك وثانيهما توسيع دائرة المشاهدين إذ غدا باستطاعة شرائح مختلفة من الناس المشاركة بل وحتى البسطاء منهم ومن داخل منازلهم ودون الحاجة إلى التنقل وقطع مسافات طويلة؟ كما أن هذه الشرائح ليست بحاجة إلى إمتلاك شهادة علمية كبيرة أو ثقافة رزينة، فكل ما هو مطلوب في البرامج الثقافية الإجابة (بنعم) أو (بلا) وأن يختار المتسابق من بين عدة خيارات. فالبطل ليس العبقري أو المفكر المتألق بل هو الإنسان العادي والبسيط!! إذاً الخطورة ليس في تسطيح الثقافة فقط؟ بل في دفع الناس البسطاء لكي يتبنوا قيم (العصر) وهي قيم التملك والثراء و الشراء بحيث تبقى حلقة الاستهلاك مفتوحة وعلى الأخص عبر الزخم الكبير من الإعلانات والمقابلات المكثفة مع المشاهير وأصحاب الجاه الوفير من طبقة الأثرياء وبرامج (المال) مما يخلق لدى الإنسان العادي الرغبة في تقليد ومحاكاة هذه النماذج! إن (فيروس) برامج حب المال لم تخترق المجتمعات العربية الإسلامية فقط لأن بداياتها إنطلقت عبر محطة (بي. بي. سي) التلفزيونية حيث قدم أول برنامج ألعاب في (31) أيار (مايو) 1938 لكنه تطور في المرحلة اللاحقة ليفرز لنا جيلا قد تغذى من تلك القيم التي تقدس (المال) بحيث دفع ضريبته آباء وأبناء هذه المرحلة . ويعزز كلامنا السابق دراسة بريطانية نشرت أخيراً تشكو من مادية الأجيال الجديدة حيث شملت عشرة آلاف طفل بين (6-16) وتقول هذه الدراسة ان الطفل البريطاني هو أكثر الأطفال أنانية في العالم وهذا ينذر بقدوم جيل على أتم الاستعداد للتضحية بكل شيء في سبيل المادة جيل لا يهمه الحب ولا الحياة العائلية ولا الصداقة المهم (الرصيد بالبنك والثلاجة المليئة بالأكل والمزيد من المال). الطفل الإنجليزي يتقاضى أجراً على كل شيء يفعله في المنزل يتقاضى أجراً على التنظيف وعلى قص حشائش الحديقة وتنظيف سيارة العائلة وفي ذهابه إلى البقالة المجاورة كل شيء في حياته له تسعيرة محددة؟ والمثل الأعلى للمراهقين الإنجليز هو (توم هاتلي) وهو مليونير في الرابعة عشرة من عمره ويعمل في تجارة السيارات المستعملة بعد أن ترك مقاعد الدراسة؟ إنه عصر الشاشة الصغيرة هذا ما يؤكده الأثرياء الجدد وأباطرة الإعلام الجدد الذين يشيحون النظر عن الصحافة المكتوبة من أجل الاستثمار في (المرئي) مما حدا ببعض الكتاب العرب إلى الإعلان عن (موت دور المثقف). وهو عينه الذي جعل المفكر الفرنسي ريجيه دوبريه يثير إشكالاً على حالة الانفتاح الظاهري عبر الفضائيات في حين تنغلق عقلية المشاهد على دائرته الصغيرة وعالمه المحدود حيث يذكر دوبريه في كتابه (حياة الصورة وموتها) هل هي مصادفة أن يكون الشعب الأكثر علاقة بالتلفزيون في العالم أي الشعب الأمريكي هو أيضاً الشعب الأكثر محلية وانطوائية والأقل معرفة بما يجري في العالم الخارجي؟ يستتبع ذلك السؤال أسئلة أخرى: أليست مهمة التلفزيون إلى جانب التسلية توفير شروط لتقديم نماذج اجتماعية إيجابية؟ ما الذي نتوقعه من هذا الجيل بعد ذلك السيل العارم من الإعلانات والبرامج التي تؤكد فقط على قيمة المال؟ ما هي النتائج الوخيمة التي سوف تنعكس على الأسرة والمجتمع إذا استمر الحال على ماهو عليه؟ لقد بات من الضروري قرع الأجراس لكي يتوقف أهل الاختصاص عند (القيم الناشطة) في مجتمعنا ويقوموا بدراستها وبتشخيصها لكي يتم طرح مشروع إصلاحي يمكنه أن يسهم في معالجة المشكلة القائمة. فالمجتمع العربي يمر بمرحلة تحول ويتعرض لهزات لم يستطع حتى الآن أن يتعامل معها بمنظور علمي بحيث يستدمج قيمه الأصيلة ويتفاعل مع الجديد الإيجابي من الأحداث والمتغيرات. ونرغب في هذه السطور أن نشيد بمحاولة متميزة لدراسة القيم السائدة في مجتمعنا العربي قام بها مكتب التربية العربي لدول الخليج بعنوان (القيم السلوكية) وهي جديرة بالقراءة من قبل الآباء وأهل الاختصاص من تربويين ومعلمين ومعلمات. فقد تناولت الدراسة أزمة القيم في المجتمع عامة وطلاب التعليم العام خاصة وشملت عينة واسعة من طلاب المرحلتين المتوسطة والثانوية في دول الخليج العربي ويرجع سبب الاختيار لهذه الفئة أنهم أكثر تعرضاً لصراع القيم وأكثرهم تأثراً بها باعتبار نظامهم القيمي في طور الارتقاء والتبلور. والشيء المميز لهذه الدراسة أنها لم تكتف بتشخيص الواقع ووصف الحال وهو مقبول بحثياً لكن الدراسة قدمت آليات للعلاج، كما قدمت أنموذجاً متكاملاً لتعليم القيم في المجال المدرسي. كما تميزت الدراسة عن سابقاتها من الدراسات بأنها لم تركز فقط على القيم الأخلاقية والدينية والاجتماعية ولكنها شملت قيماً إنسانية مهمة كالمساواة وعدم التعصب وحقوق الإنسان والقيم الوطنية والفكرية. والجميل في الدراسة أنها كشفت عن ترتيب القيم العشر الأكثر أهمية وهي: طاعة الوالدين والأمانة والرفق بالضعيف ورعاية المسنين والصدق والسلام والصداقة وصلة الرحم والولاء للوطن والتواضع. وفيما يخص تحليل القيم السلبية أو الأقل أهمية أوضحت الدراسة أن الإتجاهات لدى الطلاب نحو القيم السالبة تمثلت في الآتي: عدم الاعتراف بالخطأ واللهاث وراء امتلاك المال ( وهو موضوع هذه السطور) عدم تقبل النقد والمظهرية والتفاخر ورفض عمل المرأة وضعف الحرية الفكرية وعدم التخطيط وضعف الاهتمام بالنظام والترتيب للمنزل وضعف الانفتاح على المعرفة والثقافات الأخرى وعدم الإدخار وإضاعة المال!! أسئلة كثيرة نختمها بقصة توقفنا عندها للكاتب المعروف (ستيفن ر.كوفي) في كتابه (إدارة الأولويات) يقول فيها : منذ عدة سنوات أعلن أحد الأشخاص لزملائه وجيرانه أن هدفه العام القادم هو أن يكسب مليون دولار. كان هذا الرجل من رجال الأعمال المبدعين الذين يؤمنون بالحكمة القائلة "اعطني فكرة جيدة وأنا أكسب مليوناً" . عمل هذا الرجل على تطوير وتسجيل منتج مبتكر له علاقة بالرياضة البدنية ودار في كل المناطق ليبيعه. أحياناً كان يأخذ أحد أولاده معه لمدة أسبوع خلال هذه الرحلات؟ لكن زوجته اشتكت إليه من أخذ الأولاد معه لأنهم بعد عودتهم من الرحلة يصبحون أكثر إهمالاً لدروسهم وواجباتهم المدرسية ولأن الأطفال يرون أن هذا الأسبوع مجرد إجازة فإن ذلك يمنعهم من القيام بما يجب أن يقوموا به. في نهاية العام أعلن هذا الشخص أنه حقق هدفه وكسب المليون دولار ولكن بعد ذلك بقليل طلق زوجته وأدمن إثنان من أبنائه المخدرات بينما خرج الثالث ولم يعد. باختصار تفككت العائلة تماماً. نحن جميعاً بحاجة إلى أقوال وحكم ونماذج سلوكية نتذكرها ولا مانع من وضع هذه العبارات أمام أعيننا لكي نخفف من تأثير (المفروض) علينا ولكي تنغرس تلك الأشياء وتستقر في نفوسنا وفي الجانب اللاوعي من عقولنا ومن بين تلك العبارات الجميلة التي كنا ولا زلنا نشتهي أن تعلق في مزارعنا ومصانعنا ومدارسنا وبيوتنا حكمة (للإمام علي) يقول فيها: ( أقل الناس قيمة أقلهم علماً ).