خرج الحجاج متنزها، فلما فرغ من نزهته صرف عنه أصحابه وانفرد بنفسه، فإذا هو بشيخ من بني عجل فقال: من أين أيها الشيخ؟ قال: من هذه القرية. قال كيف ترون عمَّالكم؟ قال شرّ عمال. قال: فكيف قولك في الحجاج؟ فقال العجلي في الحجاج ما لم يقله مالك في الخمر، قال الحجاج: أتعرف من أنا؟ قال: لا. قال: أنا الحجاج. قال الشيخ: جعلت فداك أو تعرف من أنا؟ قال: لا. قال: أنا مجنون بني عجل أصرع في كل يوم مرتين! لجأ العجلي إلى هذه الحيلة لإدراكه أن المجنون لا يؤاخذ ولا يحاسب، ومثله لجأ كثير من الأدباء والكتاب فكتبوا على لسان المجانين أملا في الحصول على مساحة كافية من حرية التعبير التي لا تتيحها تقنيات الكتابة الأخرى، وهذا ما فعله الشاعر المصري حسن توفيق في كتابه (مجنون العرب.. بين رعد الغضب وليالي الطرب )، فقد رسم، وبأسلوب ضاحك، صورا ومواقف خارجة على المألوف وموغلة في الغرابة والتضاد. لقطات تربط الماضي بالحاضر، وتمزج عالم الواقع بعالم الخيال، والوهم والمستحيل بالممكن والمألوف. ولمجنون الشاعر حسن توفيق مخيلة مجنحة هيأت له أن يرى امرءا القيس مرتديا بنطلونا من (الجنز)، راكبا سيارة (مرسيدس بنز)، وأن يسهر مع عمر بن أبي ربيعة في ملهى (الليدو) بباريس، ويجري لعين زهير بن أبي سلمى جراحة بأشعة (الليزر)، ويتعرف على حمار حاول الانتحار احتجاجا على الانحدار الذي وقعت فيه الأغنية العربية، وكيف أن الحمار نفسه قد جرب الغناء فتألق وعلى سواه تفوق، وكيف أفاق مجنون ليلى من أوهامه بعد أن اتصل ب (الموبايل) بليلى العامرية فاعتذرت عن اللقاء لارتباطها بمجانين آخرين. يهدف الجنون أو التجانن الذي يروي الكاتب يومياته إلى إيصال رسالة ما قد نتفق أو نختلف معها، وأنا شخصيا أختلف مع بعض المضامين التي طرحها المجنون، خصوصا ما يتعلق بالشق السياسي المعنون ب (رعد الغضب) كون تلك المضامين صدى ليوتوبيا وشعارات ولافتات وأحلام الخمسينات من القرن الماضي. ومع ذلك تعجبني الطريقة الفنية التي تناول بها الكاتب تلك المضامين، كما يشفع له أنه صادق مع نفسه. يدرك الشاعر حسن توفيق أنه ليس على المجنون حرج، إلا أنه يعلم، كذلك، أننا في زمن أو واقع يحاسب حتى المجانين، ويخشى - والحال هذه - أن يقع في المأزق الذي وقع فيه عليَّان. وقصة ذلك أن الخليفة العباسي موسى الهادي قد استدعى يوما عليَّان وبهلول إلى مجلسه، فلما أحضرا التفت إلى عليَّان المجنون وسأله: ما معنى عليَّان؟ فرد عليَّان قائلا: وما معنى موسى أطبق؟ وقد عُرف الهادي باسم (موسى أطبق) لأن شفته العليا تقلص، وقد وكل به أبوه من صغره خادما كلما رآه مفتوح الفم قال له: موسى أطبق فيضم شفتيه وعندما غضب الهادي من عليَّان، التفت هذا إلى رفيقه بهلول قائلا: خذها إليك. لقد كنا مجنونين فصرنا ثلاثة! ولأننا نعيش واقعا مشابها فقد حاول الكاتب أن ينفي عنه تلك التهمة في مقدمة الكتاب حين قال: "المجنون ليس أنا.. هذا ما أريد أن أوضحه منذ البداية حتى لا تختلط الأمور" ثم لا ينسى، كذلك، أن يختتم تلك الافتتاحية بالتأكيد مرة أخرى على أن المجنون ليس هو، وأن مسؤوليته لا تتعدى تسجيل أقوال المجنون. لقد تبرأ من انتحال صفة الجنون لكنه وظف جماليات الجنون والأحلام للتعامل مع تلك الفوضى التي تمتد كأخطبوط هنا وهناك. وإذا كان (هتاهية) المجنون يجن ستة أشهر ويفيق ستة أشهر أخرى فإن الجنون الذي تمر به المنطقة العربية منذ الخمسينات وحتى هذه الأيام نشط على مدار العام، كما أن خدماته متوافرة على مدار الساعة. يروي النيسابوري في كتابه (عقلاء المجانين) أن عبدان المجنون مر يوما بقوم من بني تيم الله بن ثعلبة فعبثوا به وآذوه، فقال: يا بني تيم، والله ما أعلم في الدنيا خيرا منكم قالوا: وكيف ذاك؟ قال: بنو أسد ليس فيهم مجنون غيري وقد قيدوني وسلسلوني وكلكم مجانين ليس فيكم مقيد واحد! ترى ماذا سيقول عبدان لو أدرك أيامنا هذه فشهد بأم عينه الفوضى تسعى على قدمين، تروع الناس وتسفك الدماء، وتقتل الأبرياء، وتدعي امتلاك الحقيقة، وتفرض جنونها المدمر على الآخرين بمنطق القوة. ألا تدفع مثل تلك الأوضاع الشاذة إلى ذلك التجانن الإبداعي؟ أريد أن أتراجع في نهاية هذه السطور عن إطلاق صفة الجنون على تلك الفوضى التي تغمر المشهد الاجتماعي والسياسي. فهنالك فرق بين الجنون والبلاهة. وفي كتابه (الأدب والجنون) يميز الدكتور شاكر عبد الحميد بين الحالتين مستشهدا بما ورد في كتاب جون لوك (مقال حول الفهم الإنساني) حيث يميز لوك بين ضعيف العقل أو (الأبله) وبين المجنون. فالأبله محروم من العقل ومن الاستخدام الناضج للملكات العقلية، أما المجنون فهو مضطرب عقليا لكن قدراته نشطة، وهذه هي حال مجنون الشاعر حسن توفيق. وشتَّان بين البلاهة التي تهدر الدم وتنشر الرعب والدمار وتعيق عجلة التقدم والتنمية، وبين الجنون المبدع (العاقل) الذي يأتي على شكل عمل أدبي أو فني، أو على شكل ابتكار أو إنجاز يساهم في بناء الحضارة الإنسانية.