جاء التقرير السنوي لمنظمة العفو الدولية لعام 2004 ليؤكد المخاوف التي سبق أن أعربت عنها المنظمة في تقريرها السنوي للعام المنقضي بشأن "التضحية بحقوق الإنسان بذريعة الأمن" وما يُسمى "الحرب ضد الإرهاب". ويوضح التقرير، الذي ورد في أكثر من 330 صفحة ووَثّق أوضاع حقوق الإنسان في 155 بلدا وإقليما على مدار عام 2003، أن الأشهر الاثني عشر الماضية "شهدت أشدّ هجوم مُتواصل على حقوق الإنسان والقانون الدولي على مدى الخمسين عاما الماضية". أما الأمينة العامة للمنظمة إيرين خان فذهبت إلى حد القول: "إذا ألقينا نظرة على أحداث الشهور الاثني عشر الماضية، فسوف نرى حربا على القيم العالمية" وقد حمّل التقريرُ الدول والمجموعات المُسلحة على حد سواء مسؤولية هدر حقوق الإنسان وإزهاق الأرواح والانتشار المتنامي لمشاعر الخوف والحذر والانقسام على المستوى العالمي. انتهاكات عظمى لدولة عظمى لكن الولاياتالمتحدةالأمريكية، القوة العظمى في عالم اليوم، حصدت الكم الأكبر من ميداليات الانتقادات اللاذعة في إطار الترويج لفكرة الأمن العالمي التي طرحتها، أو بالأحرى فرضتها على العالم عقب أحداث 11 سبتمبر 2001. وتتصدى منظمة العفو الدولية لهذه الفكرة الأمريكية بالقول: "إنها فكرة خطيرة تؤدي إلى الانقسام.. وتهدد الأمن الدولي.. وتحول دون فحص مسلك الحكومات ودون خضوعها للمحاسبة، كما تحرف الأنظار عن الصراعات وغيرها من مصادر انعدام الأمن". وبلهجة صارمة قد لا تروق للبيت الأبيض وحلفائه، أكد تقرير المنظمة لعام 2004 أن التوجهات الأمنية العالمية لواشنطن "مجردة من المبادئ" و"تفتقر لوضوح الرؤية". أما التقرير فلم يفتقر لهذا الوضوح عندما توجه للحكومة الأمريكية بالقول إنها "حكومة تسيء للعدالة والحرية"، وتحول العالم إلى "عالم أقل أمنا" ب"انتهاكها لحقوق الإنسان فوق ترابها، وغض الطرف عن الاعتداءات التي تُرتكب في الخارج، واللجوء بدون أي قيود إلى ضربات عسكرية وقائية". وقد أحصى التقرير عددا من عمليات القتل غير الشرعية التي ارتكبتها قوات التحالف وجماعات مسلحة في حق مدنيين في العراق. ولم تغفل منظمة العفو الدولية الإشارة إلى ممارسات التعذيب الواسعة النطاق وسوء المعاملة التي تعرض لها السجناء العراقيون على يد قوات التحالف خاصة الجنود الأمريكيين، وهي ممارسات وصفتها الأمينة العام لمنظمة العفو الدولية إيرين خان ب"جرائم حرب" في الرسالة المفتوحة التي وجهتها يوم 7 مايو الماضي للرئيس الأمريكي جورج بوش. كما تحدث التقرير عن الاعتقالات التعسفية التي أقدمت عليها الولاياتالمتحدة وحلفاؤها في كل من العراق وقاعدة جوانتانامو وأفغانستان ودول أخرى."جرائم حرب" إسرائيلية وأخرى فلسطينية. وقد شدد التقرير على أن "الحرب ضد الإرهاب" والحرب على العراق تسببتا في خلق موجة جديدة من انتهاكات حقوق الإنسان وصرفتا الأنظار عن عدد من الصراعات القديمة. ويقول التقرير إن النزاعات المتواصلة سواء في كولومبيا أو النيبال أو جمهورية الكونغو الديمقراطية أو السودان أو الشيشان أو غيرها من البلدان، مازالت مسرحا لممارسات أسوأ وأفظع، لكن بعيدا عن أعين المجتمع الدولي. أما عن الأوضاع في إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة التي لا تغيب عنها كاميرات العالم، فشدد التقرير على تدني الأوضاع "إلى مستويات لم يسبق لها مثيل من الفقر والبطالة والمشاكل الصحية" في الأراضي الفلسطينية بسبب "القيود المتزايدة التي فرضها الجيش الإسرائيلي على تنقل الفلسطينيين". وتقول منظمة العفو الدولية إن بعض الانتهاكات التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي جرائم حرب، بما في ذلك أعمال القتل دون وجه حق وإعاقة المساعدات الطبية...وتدمير الممتلكات بشكل واسع النطاق ودون مبرر، والتعذيب واستخدام "الدروع البشرية". وعلى الجانب الفلسطيني، اعتبرت المنظمة الاستهداف المتعمد للمدنيين الإسرائيليين "جرائم ضد الإنسانية". بانوراما حزينة في العالم العربي وعلى صعيد سجل حقوق الإنسان في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا عموما، يقول التقرير إن "حصاد منجل الموت استمر في الإرتفاع في خضم الصراعات المسلحة في المنطقة، مع اندلاع الحرب في العراق واستمرار الصراعات الدائرة في إسرائيل والأراضي المحتلة والجزائر".لكن منظمة العفو الدولية حرصت على ربط التمادي في إهدار حقوق الإنسان الأساسية في هذه المنطقة بسياسة "محاربة الإرهاب" على المستوى الدولي. وفي هذا السياق، ذكرت المنظمة أن دولا مثل تونس والمغرب لجأت خلال عام 2003 إلى سن قوانين جديدة بهدف "مكافحة الإرهاب"، وهي قوانين تشكل حسب المنظمة "مزيدا من التهديد لحقوق الإنسان الأساسية". ويظل القاسم المُشترك بين معظم البلدان العربية التي خضعت لمجهر منظمة العفو الدولية، عمليات الاعتقال والاحتجاز دون أية تهمة أو محاكمة، والمحاكمات الجائرة، وتقييد الحريات، وكثرة سجناء الرأي. وفي الأردن، "راحت 15 امرأة وفتاة على الأقل ضحايا لأعمال قتل في محيط الأسرة".. وفي لبنان "حوكم عشرات المدنيين أمام محاكم عسكرية".. وفي ليبيا، استمر صدور أحكام بالسجن على بعض المعارضين السياسيين بعد محاكمات جائرة أمام المحاكم الشعبية.. هذا جانب من بانوراما حقوق الإنسان في العالم العربي من المحيط إلى الخليج التي يمكن الإطلاع عليها بالتفصيل في تقرير منظمة العفو الدولية لعام 2004. حتى في سويسرا المؤسف أن عددا من الدول التي تتخذ نموذجا في مجال الديمقراطية والحريات، تحيد أحيانا عن الصراط المُستقيم في مجال حقوق الإنسان. ومن بين هذه الدول سويسرا التي تعرف تشددا متزايدا إزاء الأجانب واللاجئين، خاصة بعد فوز حزب الشعب السويسري اليميني المتشدد بالانتخابات التشريعية الأخيرة. وقد أوردت منظمة العفو الدولية في هذا السياق مزاعم عن إساءة ضباط الشرطة السويسريين معاملة "بعض المعتقلين، ولا سيما الأجانب والسويسريين من غير الأجناس البيضاء". كما نوه تقرير المنظمة إلى مشكل العنف ضد المرأة الذي "يمثل مشكلة خطيرة بالرغم من المبادرات التي اتخذتها السلطة (السويسرية) لمعالجتها.وكان الملف القاتم لانتهاكات حقوق المرأة والعنف الذي تتعرض له سواء في محيط الأسرة أو المجتمع، أثناء النزاعات المسلحة أو في السجون، من المحاور التي أولتها منظمة العفو الدولية عناية خاصة خلال عام 2003. وقد يكفي تصفح الجزء الذي خصصه تقرير المنظمة لهذا الملف لتكوين فكرة عن الفظائع الجنسية و"أنماط الانتهاكات الشائعة والمنتظمة التي لا تُلقى عليها الأضواء..في أعقاب وقوعها مباشرة". وقد يتساءل المرء كيف يمكن حماية حقوق المرأة في الدول التي تتخبط في النزاعات والحروب والتخلف والفقر.. عندما تصعب حمايتها أحيانا حتى في الدول التي تعطي لغيرها دروسا في الديمقراطية وحقوق الإنسان؟. لوس انجلوس جورنال