الضحكُ بصفتِهِ فيضان الفرح خارج وعاء النفس بعد امتلائها به.. هذا الضحك دائماً ما يجيءُ في نوادر منثورة نتيجةً لطبيعتهِ الفيضانيَّة، ومن أصعب فنون الكتابة هو اعتقال الضحك في شبكةٍ من الكلمات المنسوجة من تفاعيل وأوزان.. وبالتالي تحويل الفيضان إلى نهرٍ يتهادى بين ضفّتين تحاصرانه، وهذا هو مكمن الإبداع في ديوان الشاعر الكبير ناجي الحرز (قصائد ضاحكة). ولعلَّ الملاحظةَ الأُولى التي يلاحظها القارئ هي المحاولة الجادَّة لِشَعْرَنَة الحياة وقضاياها الصغيرة خلافاً لِمَ درج عليه الشعر من التعالق مع القضايا الوجوديّة الكبرى في الحياة. ورغم أنَّ الديوان يعالج قضايا صغيرة، إلاَّ أنَّ الشعر يتجلَّى في معناه الكبير، وهو تلك الوقفة التي يقفُها الإنسانُ أمامَ شيءٍ مألوفٍ بطريقةٍ غير مألوفة.. أيْ بطريقةٍ مليئةٍ بالدهشة.. ثمَّ يستنبطُ معانيَ جميلة تعبِّر عن تلك الدهشة. الملاحظة الثانية هي قدرةُ الحنق الإبداعيّ الذي يتجاوز الغضبَ حِدَّةً.. قدرة هذا الحنق على تفجير الجُملة الشعريّة تفجيراً دراميّاً كما في قصيدة (شمشون الخكارة): فاشترى للبابِ قفلاً في الختام أزعمُ أنَّ الحياة بكلِّ قيمها ومبادئها هي الوطن الحقيقيّ الذي ينتمي إليه الشاعرباب مرحاض القذارَه خائفاً أنْ ينهبَ الناسُ من الكوعِ ادِّخارَه قلتُ: يا هذَا تَمَهّلْ مِلْتَ عن خَطِّ المهارَه إنَّ من يدخل يعطيكَ فلا تخشَ الخسارَه ونفس التفجّر الدراميّ يتّضح في قصيدة (ارحمونا): أيّ نحسٍ قد رماني في يدِ الدكتورِ (هاني) جئتُهُ أشكوهُ داءً وبِداءينِ ابْتلاني الملاحظة الثالثة هي كتابة الضحك من أجل الضحك في حالةٍ وصفيَّة شبه خالصة لا تُحيل إلى إشارات أعمق مِمَّا هو طافٍ على سطح الجملة الشعريّة إلاَّ ما ندر، وهذا ما جعلني أشعر بمبالغة الشاعر الجميل (عادل الرمل) في مقدّمة الديوان عندما تحدَّث عن بكاء الضحك في القصائد. أعتقد أنَّ الكوميديا الشعريَّة يجدرُ بها أن تكون مُبطَّنةً بالفجيعة التي تجعل الضحكَ يتجاوز كونه عمليّةً استهلاكيّة، وكأنَّ الفجيعةَ تُمثّلُ عنصراً هامًّا من عناصر تفعيل الضحك، حيث تتحوّل القهقهاتُ المجلجلة إلى سلاحٍ ضدَّ الزمن وخطّ دفاع -ربَّما يكون خطّ الدفاع الأخير- في وجه الدنيا وذلك بتحويل كل الأشياء إلى سخريّة. الملاحظة الرابعة هي ما أشار إليها الناقد (محمد الحرز) في دراسته عن الديوان والتي تتلخّص في المحافظة على الهويَّة الأحسائية عبر توظيف مفرداتِ هذه الهويَّة الموروثة واستنساخ الملامح الهامّة في شخصيّة اللهجة الهجريّة. في الختام أزعمُ أنَّ الحياة بكلِّ قيمها ومبادئها هي الوطن الحقيقيّ الذي ينتمي إليه الشاعر، لذلك يجب على هذا الشاعر أنْ يكونَ يقظاً كالجيش من أجل حراسة وطنه/الحياة.. والحراسة هذهِ هي ما قصدتُهُ في البداية بالشعرنة. وإذا ما علمنا أنَّ اللغة هي سلاح الشاعر، كان على هذا الأخير أن ينصب متراساً لغويًّا عند كلِّ قيمة من القيم، وعند كلِّ مبدأ من المبادئ من أجل مقاومة كلّ محاولة انتهاك.. وبناءً عليه يُصبح الضحك الشعريّ في هذا الديوان جنديًّا مقاوماً يتصدّى لغزو الرذائل إلى آخر قهقهة. ويبقى السؤال هنا: إلى أيّ مدى نجحت متاريسُ شاعرنا المنصوبة على حدود الإنسانيّة في الحفاظ عليها من الغزو؟ وهل كانت تلك المتاريسُ صلبةً كالفولاذ أم هشّةً كالصفيح؟ واللغة.. هل عانقت الجوهرَ بِما يكفي لِمُقاومة العاصفة، أم بقيت على السطح مما يسمح بسقوطها مع أول ريحٍ عابرة؟ هذه أسئلةٌ مشروعةٌ وإن كنتُ أنحاز للديوانِ انحيازا كبيرا، وألمسُ فيه قدرةً فائقة على تفتيت حصاة الهم وطردها خارج روح القارئ.