تراكمات وخلافات خمسين عاما من الزواج تجمعت لتصبح كالبركان الثائر ينشط فجأة لسبب تافه فينفجر وتتطاير منه الحمم لتقتل العشرة والحب وتعطي الزوج الذي بلغ من العمر أرذله القوة ليقتل شريكة حياته!! ربما تكون الرغبة الكامنة بداخله للتعجيل بأجله هي زوجته بعد أن بلغا من العمر أرذله وليأسه وملله من طول الانتظار للنهاية المحتومة التي لا مفر منها أو سأمه من الحياة الروتينية التي يعيشها لقرابة 34 عاما منذ إحالته للمعاش، حقا جريمة غريبة بكل المقاييس فقد كتبت لحياة زوجية نهاية مأساوية فالزوجان وصلا إلى نهاية العمر ولم يعد يمثل ما تبقى مهما زاد إلا نسبة ضئيلة مما ذهب فالزوج 84 عاما والزوجة 67 عاما! علي كان معترفا ومقرا بجميل جارته زهرة وزوجها محمد أو كما يطلق عليه سكان المنطقة عم محمد فبعد رحيل والدته عن الحياة وهو مازال طالبا بالمدرسة وله ثلاث شقيقات أصغر منه لم تتخل عنهم جارتهم وساعدتهم بقدر استطاعتها فكانت تعد لهم الطعام وتغسل لهم ملابسهم واعتبرتهم أولادها وساعدها في ذلك عدم إنجابها ولم يعترض زوجها يوما على ما تقدمه من خير بل كان يشجعها على عطائها. يوم مشؤوم لم ينس علي كل ذلك فبعد أن أصيبت زهرة بالمرض الذي أقعدها عن الحركة كان بارا بجاريه فدائما يتردد عليهما للاطمئنان، وفي يوم مشؤوم بعد عودة علي من عمله وجد باب شقة جيرانه مفتوحا فطرق الباب فلم يجبه أحد فدخل الشقة وإذا به يجد زهرة على الأرض وسط بركة من الدماء، أسرع بإحضار طبيب من العيادة المجاورة لهم لكن الطبيب أكد أنها فارقت الحياة فتم إبلاغ قسم الشرطة، على الفور انتقل رجال المباحث لمكان الحادث وفي البداية توقع الجيران أن الحادث من أجل السرقة ولكن بعد وصول رجال المباحث ومعاينة المكان تبين أن محتويات الشقة كاملة ولا تبدو عليها أية علامات للسرقة فالشقة غاية في البساطة ومرتبة كما تم العثور على مبلغ 3 آلاف دولار بدولاب حجرة النوم ووجود ثلاث أساور ذهبية في معصم القتيلة وبذلك تم استبعاد السرقة كدافع للجريمة وبمعاينة الجثة وجد بها جرح غائر بالرأس أكد الطبيب أنه سبب الوفاة كما أن الزوجين ليس لهما أي عداوة مع أحد بل إنهما محبوبان من جميع الجيران ولكن ما شد انتباه الجيران والمثير للدهشة أن زوج القتيلة الريس محمد غير موجود، وأكد جميع الجيران لفريق المباحث أن الزوج رجل مسن يبلغ من العمر 84 عاما وغير قادر على الحركة فطاقته تنفد بمجرد نزوله السلالم ومنذ سنوات عديدة وهو غير قادر على أن يبرح باب المنزل فأقصى ما يفعله هو نزول السلم ثم الجلوس على كرسي على باب المحل الموجود أسفل العقار وبالطبع لم يخطر ببال أحد أن يكون الزوج العجوز هو القاتل!! وتوقع الجيران أن يكون في المنطقة فهو لا يستطيع الابتعاد كثيرا، طاف رجال المباحث والجيران في المنطقة للبحث عن الزوج المختفي لمدة 8 ساعات متواصلة ليكشفوا غموض الجريمة لكنهم لم يجدوه وفي النهاية عادوا إلى مكان الحادث لاستكمال المعاينة فإذا بهم يسمعون صوت أنين أسفل سلم العمارة ويفاجأون برجل نحت الزمن والمرض جسده فلم يتبق منه إلا عظام مكسوة بالجلد مكوما في الظلام وفي حالة بكاء شديد وعلى الفور أطلق صرخة ممتلئة بالندم والحسرة معلنا أنه هو القاتل، قتل شريكة العمر ورفيقة الحياة، قتل عشرة خمسين عاما. مسرح الجريمة تم إلقاء القبض على الزوج وبدأ يحكي قصته مع زوجته منذ خمسين عاما عندما شاهدها لأول مرة في حياته أثناء زيارته لأحد أقاربه شعر براحة غير عادية وتأكد أنها الزوجة التي يبحث عنها، تقدم لأسرتها لطلبها للزواج فلم يعترض أحد عليه فهو موظف في الجمعية التعاونية للأثاث وله دخل ثابت، استأجر الشقة مسرح الجريمة وتم فيها الزواج وكما كانت شاهدة على بداية حياتهما السعيدة كانت شاهدة على نهايتها الحزينة المؤلمة، عاشا كأسعد زوجين محبين لبعضهما ولكل من حولهما واشتهرا بطيبة القلب والخلق الرفيع ومساعدة كل من حولهما لكن شاءت الأقدار أن يحرما من نعمة الإنجاب فقد ضنت عليهما الدنيا بأن يكون لهما ولد أو بنت وبعد مشوار طويل ترددا فيه على معظم الأطباء المتخصصين تأكد لهما أن الزوج مصاب بالعقم فأخفيا سرهما عن الدنيا بأسرها ولم يعلم أحد من المسؤول عن عدم الإنجاب. عرض محمد على زهرة في ذلك الوقت أن يطلقها فرفضت وأكدت له أنه هو الدنيا بأسرها فهو الزوج والحبيب والأب والابن، وسارت بهما الحياة وكل منهما يبذل قصارى جهده لإسعاد الآخر ولم ينكر محمد جميلها يوما فقد حفظت سره حتى في أحلك الأوقات، وكأي زوجين كانت تحدث بينهما خلافات أحيانا وكانت زهرة تترك المنزل وتتوجه لمنزل أسرتها دون أن تبوح بالسر أو تلمح به وعلى الفور كان يسرع محمد لإحضارها ومصالحتها وتقديم الترضية الكافية لها فهو غير قادر على مواصلة الحياة بدونها، ولكن حياتهما أصيبت بالشيخوخة منذ اليوم الذي تم فيه إحالة الزوج للتقاعد بعد أن بلغ السن القانونية للمعاش وفي الحقيقة لم تكن الإحالة له هو فقط وإنما كانت لصحته وصحة زوجته وكأن المرض كان ينتظر خروجه للمعاش فقد هاجمهما المرض وملأ جسديهما فأصبح محمد لا يرى إلا بصيصا من النور ولا يسمع إلا همسا ولم تعد قدماه قادرتين على حمله فكان يستعين بعصاه أما زهرة فالروماتيزم سكن كل مفاصلها وجعلها لا تتحرك إلا بصعوبة بالغة، تحولت حياتهما إلى حياة رتيبة سيناريو يتكرر كل يوم بداية من الصباح الباكر حيث يستيقظ الزوج ويصلي الفجر ثم يوقظ زوجته من نومها ويسندها حتى تتوضأ بسرعة نظرا لأنها غير قادرة على الوقوف أكثر من بضع ثوان بعدها يختل توازنها وتسقط على الأرض وسريعا يسندها زوجها ليصل بها إلى مقعدها بالصالة الذي تقضي عليه يومها بالكامل. رحلة شاقة لم يهمل زوجته يوما مع أنه كان في أمس الحاجة لمن يرعاه، يتوجه محمد إلى الشارع وبمجرد أن ينزل السلم متكئا على عصاه يستند إلى أقرب كرسي بالمحل الموجود أسفل المنزل وكالعادة يسارع الصبية لشراء طعام الفطور واحتياجاته اليومية بعدها يبدأ رحلة العودة الشاقة إلى شقته بالطابق الثالث فمشقة الصعود أكبر من الهبوط وهذا هو الخروج بالنسبة للعم محمد منذ حوالي 34 عاما وهو على هذا المنوال، ثم يقضي باقي يومه مع زوجته والصمت الرهيب يحاصرهما لا يقطعه إلا كلمات قليلة يلقيها كل منهما على الآخر للضرورة القصوى وربما يمر يوم كامل دون أن يتحدث أحدهما إلى الآخر فلم يعد هناك ما يجعلهما يتحدثان أو ربما العشرة الطويلة والمرض أنهيا كل الكلام بينهما وانعدمت لغة الحوار أو ربما أصبحا غير قادرين على التحدث بصوت عال حتى يسمعا بعضهما فقد أصيب سمعهما بالضعف، وفي اليوم المشؤوم نشبت بين العجوزين مشاجرة بسيطة فبعد أن جهز الزوج طعام الغداء ونفدت طاقته طلبت منه زوجته كوبا من الماء فطلب منها أن تمهله بعض الوقت حتى يستريح من عناء إعداد الطعام وعندما أصرت على حاجتها الملحة لكوب الماء طلب منها أن تتحامل على نفسها وتقوم بإحضاره لنفسها لكن الزوجة العاجزة عن الحركة والتي لا تتحرك إلا بمساعدته بدأت تندب حظها والزمن والأيام وما فعلته بها وجعلتها تحتاج إلى هذا الزوج الجاحد الناكر للجميل!! غضب الزوج من كلامها ولأن هذه هي طبيعة العجائز دائما يتملكهم الإحساس باليأس والملل من الحياة طالبين من الله سرعة الأجل.. طلب الزوج وقتها من الله أن يعجل بأمره حتى يستريح لكنها اعتبرت أنه يطلب الراحة منها فتأزم بينهما الموقف وتطور سريعا وتغيرت لغة المشاجرة ولأول مرة تنطق زهرة بالسر الذي أخفياه عن العالم بأسره لمدة خمسين عاما وقالت: إنها لو كانت تزوجت رجلا ينجب لكان حولها الآن البنون والبنات الذين يخدمونها ويسهرون على راحتها، وكانت الطعنة قوية فقد قتلت العجوز محمد قبل أن يقتلها وأراد محمد أن يجعلها تكف عما تقوله فرفع عصاه وبكل ما تبقى لديه من قوة ضربها على رأسها ضربة واحدة فتفجرت الدماء واندفعت من رأسها بغزارة وسقطت من على مقعدها جثة هامدة بلا حركة، لم يصدق العجوز ما فعله ولم يتمالك نفسه بأن يرى عشرة خمسين عاما بحلوها ومرها تنهار أمام عينيه وخرج من الشقة. في نهاية اعترافاته طلب محمد من الله الرحمة وتعجيل أجله وطالب وكيل النيابة بأن يسارع في إصدار الحكم بإعدامه بأقصى سرعة، أمرت النيابة بحبس المتهم أربعة أيام على ذمة التحقيق ثم جدد قاضي المعارضات حبسه لمدة 15 يوما وكان واضحا على العجوز القاتل يوم تجديد حبسه أن صحته ازدادت سوءا لما يعانيه من الرطوبة داخل الحجز كما تورمت عيناه من كثرة البكاء على زوجته.