في مجموعته الشعرية الجديدة التي صدرت عن دار المدى للثقافة والنشر عام 2003م، يمتعك مسفر الغامدي حين تقرأ له. يلقي عليك غلالة رقيقة من اللغة الشفيفة التي يشف معها جسدك عن روحك، ليحملك على زورق من ورد الكلمات إلى عالم بكر، عالم طفل بريء، حيث يعود بك إلى طفولته، إلى القرية والمدرسة، وإلى البيوت الحجرية، جاعلاً من الطبيعة الجميلة خلفية يتحرك عليها الفعل الإنساني حركة شاعرية تتدفق كنهر يكتب العشب ويمحو الرمل. تمتعك هذه المجموعة كثيراً، لأنها تكتنز بفضاءات وفيوض تحسها وتتفاعل معها، وتجد نفسك وسط حقولها وكرومها في حالة من الوجد، وأنت لا تكاد تدري كيف اصطادك مسفر، ومن أي باب أدخلك عوالمه الشعرية. كل ما يمكنك أن تعرفه، أنك دخلت القصائد من باب: ( لا تدخله إلا كي تخرج منه قتيلاً مطعونا بمئات الأحرف مزهواً بالعشق!!!) ص 79 ما يلفت نظرك أنك تجد قصائد المجموعة تفر بك هاربة من دفتي الكتاب، ملقية ضفائرها في الحقول، قافزة بين السواقي والشجر، لتجد نفسك وأنت تلاحقها من ساقية إلى ساقية، ومن جبل إلى جبل، ومن وردة إلى وردة ومن دمعة إلى دمعة، مضطراً لأن تستسلم لها، أن تهبها نفسك لتلقي بك في غاباتها كيفما شاءت، تؤرجحك بين الغيم وبين الصحراء تعطيك من فاكهة الأمطار، و" فاكهة اللظى" ما تشاء. أنها تنمو في نفسك قراءة بعد قراءة حتى تملؤك وتضمك إلى أفيائها كما تضم الحقول قبضة ثلج. وتكاد قصائد المجموعة بشقيها: الأقاصي والأحوال- تشترك بسمة الحنين إلى الماضي، إلى الطفولة والقرية، وبهذا لا يصبح للزمن عنده معنى إلا بمقدار ما يحمل من ارتدادات إلى الأمس، فالزمن عنده زمن ارتدادي، لكنه لا يرتد إلى الماضي نكوصاً، ولكن ليجعل من ذلك الماضي منطلقاً نحو المستقبل. وهكذا يتحول الحاضر إلى مجرد وصل بين الزمنين الآخرين وكل مستقبل لا يرتوي من غيم الأجداد لا يزهر. ( فاخلعوا مالبستم وصبوا- على جسد يترمل- ما تقتضي الروح من غيم أجدادكم.. قليلاً من الذكريات من الماء.. .. سينمو على الغصن بعض الورق .. سينمو على الجذع ظل صغير ليصبح ظلاً كبيراً..) ص13 وبذلك يحمل الزمن الماضي عند مسفر دلالة انتمائية حضارية، وتصبح مهمة الحاضر أن يكون مجالاً لتمحيص الماضي والكشف عن عناصر القوة والخير والجمال فيه، والتي ربما لم تكن مرئية من قبل. لتكون تلك العناصر عماد المستقبل. ( أذكر أن الطريق إلى المدرسة كان يرفل في الأغنيات ولكنني لم أكن لأراها لأن عيوني مثقلة بالنعاس!! .. الآن أذكرها جيداً وهي تغسلني بغبار الطباشير.. وأنا غارق في البياض!!) ص16 والشاعر الغامدي في هذه المجموعة لا يعتد بالزمن المجزوء، لأن الزمن عنده وحدة نفسية يؤذيها كثيراً التفكيك الميكانيكي للحظات والفترات. الزمن عنده هو الحياة، والحياة هي الشعر، وكي يبقى مسفر على قيد الحياة، لابد أن يبقى على قيد الشعر، وكي يبقى على قيد الشعر، لابد أن تبقى ( السراة)/ الذكرى- بمدلولاتها الجمالية والانتمائية- على قيد ذاكرته. ( كنت أدخلتها في ضلوعي لأبقى على قيد شعري: مصاباً بها في الجبال وباك عليها إذا انحرف الغيم عنها وصب علانية في الرمال!!) ص32 ولابد لمسفر- الهادئ الجميل- أن يكون مشاكساً مادام الغيم يغتصب من السراة. ومادامت السراة بين ريحين: ( ريح من الشرق تنقض مسرعة باتجاه المياه لتسرقها من يديها وريح من البحر رقت لتكشف عن عورة الرمل!!) ص31 أنه كالنهر لا يمكنه أن يكتب العشب ما لم يجرف الرمل/ لا يمكنه أن يكتب الشعر/ أن يحيا ما لم يشاكس المسلّمات القائمة. المشاكسة المبدعة تطبع مشواره كله، بدءاً من تمرده على نواهي أبيه: ( كدت أنساك لكنني أذكر الآن ملح الكلام وسكره!! كلمات أبي حين يأمرني بالصلاة ويردف ذلك بالنهي عنك!! صوت أمي إذ تتوسل باكية: لم يغادر سوى للحقول القريبة!!) ص28 ومروراً بتمرده على سطوة المدرسة، وصبره- تحدياً- على الجلد قرب الإدارة: (كدت أنساك لكنني، الآن، أذكر كيف كنا نشاكس بعض الحجارة والعلب الفارغة حين نهرب من سطوة المدرسة؟!! كيف كنا نغالب أدمعنا حين نجلد قرب الإدارة.. لنفاخر أنا جلدنا ولم نعترف بالبكاء!!) ص29 وانتهاء بدخوله بين السيف وبين الوردة. المشاكسة ( المبدعة) عنده هي تفجير لطاقات الحياة/ الشعر. فإذا ما خبت جذوة المشاكسة لديه، يكون بوسع ضياء مسفر ( الصغير) الذي يمثل امتداد مسفر أن يحمل إرث المشاكسة ليكمل المشوار، كي تستمر الحياة وتكمل دورتها. ( حين كنت أوطّن ساقي على الصمت: ألا تخط كلاماً على الأرض أن تستكين!! كنت تسقط حيناً، وحيناً تقف. تتهجى الطريق تمرن ساقيك أن تكتبا الطرقات ولو بعد حين!! هكذا عندما يفرض العمر، والمرحلة على مسفر مساومة ما، انحناء ما.. يترك لضياء أن يستقيم على المشاكسة.. ( لا بأس للسهم أن يستقيم وعلى القوس أن ينحني!!) ص 61