في الطفولة والمراهقة نتعلق بأشياء ونهوى أخرى، نخال أن بعضها يموت أو يصبح نسياً منسيا رغم ما فيها من جمال وبراءة. غير أننا نكتشف في لحظة ما وحالة ما أن ما كنا نحبه يوماً ونسعد به لا تتحول مشاعرنا تجاهه إلى النقيض بل هي مشاعر مختبئة خلف سنوات أعمارنا التي نعتقد بأنها تملي علينا أن نخجل أحياناً فلا نظهر من أهوائنا ما لا يناسبنا في العمر أو القدر فنتوقف عن اظهار حماسنا لها أو التعاطي معها بأي شكل ومهما كان نوعها، وهذا أمر يخص الإنسان العربي وحده انطلاقاً من عبارات وأمثلة يرددونها مثل (ما عاد في العمر كذا ما مضى) أو (بعد ما شاب ودوه الكتاب) وغيرها من عبارات مهمتها أن تئد الرغبة بالاستزادة أو الفرحة والابتهاج مهما كانت بسيطة وخاصة جداً بصاحبها. أحياناً نحتاج إلى عيون مختلفة لنقرأ بها الناس ولحظاتهم التي تستدعي تصرفاً معيناً قد لا يتعامل معه الجميع بالمستوى نفسه تذكرت وانا أخط الكلمات الأولى في هذه المقالة سيدة قاربت السبعينات ولكنها مع هذا لا تنفك عن ابهاج نفسها بالرقص في كل مناسبة يحضر فيها النغم، فيتحدث عنها بعضهن بما يسيء لها، ولهذا تابعتها يوماً بنظراتي لعلها تلتقط بعضاً مما في نفسها، فوجدت امرأة تجيد صنع البهجة لنفسها، وفي نفسها ولمن حولها، متصالحة مع ذاتها، تتمايل بهجتها مع الدفوف أفضل مما يتمايل جسدها؛ هي لا يهمها إن كانت تتقن خطاها الإنصات إلى الدف لأن لها قلباً يحسن الإنصات إلى البهجة فيتبعها ولا يهتم بمن يتشبث بقدراته على الكتم وإخفاء ملامح الفرحة التي لا يحسنون استقبالها سوى بابتسامة صفراء خائفة من كلام الناس. فما أقل من يتقن الإنصات للمباهج البسيطة وكأنها تخيفهم أو كأنها تقلل من احترام أنفسهم أمام أنفسهم قبل الآخرين فيهربون منها ويرتدون أقنعة تطبق على أرواحهم قبل قسماتهم. لا أدري لماذا جاءت صورة تلك المرأة في بالي رغم بعد صورتها عما أريد الكتابة عنه هنا من بقايا المراهقة التي نهضت في روحي عندما صرت أفرح مع من يفرحون بفوز نادي النصر وابتهج مع كل تعليقاتهم بعد كل مباراة وتفاعلهم القوي بكل الأشكال مع البهجة التي طال انتظارهم لها حتى وجدت نفسي فجأة (متصدرة ولا تكلمني)، رغم أني لم أكن من المتحمسين للكرة بشكل عام ولكنها من الأمور المبهجة التي فرضت نفسها في وقت ما على أجوائنا العائلية الخالية من هموم الحياة والجدية في التعامل ومع العمل الذي يقسو علينا كلما أفسحنا له المجال بالضغط علينا، ولكن عندما عاد النصر إلى الصفوف الأمامية اكتشفت أن الحماس الرياضي قد عاد وصرت أتابع وأسأل إذا فاتني شيء من تلك الأهداف، وأقرأ تعليقات الصغار والكبار بحماس وهي التي وصلت إلى أوراق الامتحانات حين ذيل أحد الطلاب ورقته بعبارة (متصدر لا تكلمني) وكانت نتيجته متميزة فاستحق درجة كاملة وعبارة (أحسنت يا متصدر) من أستاذه. أحياناً نحتاج إلى عيون مختلفة لنقرأ بها الناس ولحظاتهم التي تستدعي تصرفاً معيناً قد لا يتعامل معه الجميع بالمستوى نفسه من البساطة فيميلون إلى تعقيد الأمور سواء في التعامل مع أولئك الناس أو في نظرتهم لها، صحيح أن الأول لن يضره موقف الآخر منه ولكن الموقف قد يثير ذاك الآخر فيغضب ويغضب غيره. عندما زرت تونس قبل بضع سنوات كنت أرى جموع السياح الأجانب إذا وصلوا في المساء من رحلتهم السياحية لبعض المواقع هناك وكانت بينهم سيدة عجوز من أكثرهم حضوراً بما تملكه من قدرة على إسعاد نفسها ومن حولها وكأنها تجعل السماء تمطر فرحاً وياسمين على كل من يراها وكل من يتحدث معها، وكان من حولها يمتنون لها على خفة روحها ولم يكن أي منهم يعبس في وجهها أو يتهمها بالسفاهة أو يرفع صوته بالنصح لها طالباً منها أن تقلب سحنتها وتتصنع الجدية لأن هذا ما يناسب عمرها كما نفعل نحن حين يتبارى بعضنا في اغتيال البهجة البريئة وحين يصرون أن الحياة لها مسلك واحد رتيب وممل فيميتوا أرواحهم قبل أن يحين الأجل. تويتر @amalaltoaimi