(لا حصانة لنا من الاستعمار والامبريالية والاحتلال ما لم نخض معركتنا على جبهة التخلف العربي في الداخل التي افرزت وتفرز ما سماه المفكر الراحل مالك بن نبي (القابلية للاستعمار) وان علينا ان نبدأ بالاصلاح الذي يجب ان يتوجه الى الداخل ابتداء من البيت الى المدرسة والمؤسسة الى ملعب الاصلاح السياسي الذي يلتقي فيه الامير مع الجماهير) حسب رأي الكاتب محمد جابر الانصاري الذي بنى آمالا عريضة على ثقافة المراجعة هذه, والتي من شأنها حسبما يقول ان تحد من التراجع الحضاري الذي يسم الامة, وان تكشف عن جذر العطل العميق الذي يحول بيننا وبين كل اصلاح حقيقي يساهم في تعرية التخلف, ومن هنا كانت الحاجة الى تشكيل ما سماه الانصاري (جبهة تحرير من التخلف) وفي كل قطر عربي. لو سلمنا جدلا بامكانية طرح اطروحة كهذه, فما آلية العمل التي يفترض اتباعها لترتيب البيت العربي ومن الداخل اذا صح التعبير؟ واذا اردنا الاصلاح ففي اي اتجاه سيتم العمل, في ظل شرخ العالم كله الى فريقين بعد تلك النظرية المتدمقرطة (من ليس معنا فهو ضدنا)؟ من من المختلفين منا سيقرر شكل الاصلاحات التي نحتاجها لمواجهة حرب الالغاء هذه؟ بل كيف سنتجاوز كل تلك الخلافات والفتنة هي من اهم الاسلحة التي يعول عليها اي مستعمر للسيطرة عملا بمقولة (فرق تسد)؟ وهل لدينا اساسا اية قابلية لنتحمل مسؤولية الاصلاح بعيدا عن تأثير المستعمر واهدافه؟ ان الاسئلة كثيرة جدا, والاجوبة متيسرة, ولكن ما نحتاجه هنا فعليا هو التحلي بالوعي وادراك مدى خطورة هذه الحملة التي تواجه امتنا وديننا وهويتنا, وهذا يدفعنا الى التساؤل: كيف يمكننا ايجاد الاساليب الناجعة لمواجهة هذا الطوفان؟ لابد لنا من الوقوف على طبيعة العلاقات بين الاسلام والغرب حيث يحمل كل منهما مفهوما مغايرا للآخر, والوقوف على طبيعة هذه العلاقات يساعد في فهم النوايا الحقيقية للمستعمر المحتل. من المعلوم ان المفهوم الاسلامي ذو دلالة دينية سامية شوه الغرب معناه الروحي عندما صوره للعامة في الغرب على انه ذو انياب شرسة تقلم براثنها في مدفع. اما المفهوم الغربي - في مدلوله الجديد - فيقوم على اشكاليات متعددة, ولا سيما اذا تساءلنا عن اي غرب نتحدث هنا؟ هل المقصود الغرب القديم اي اوروبا المرجع التاريخي لاميركا واستراليا بل وحتى روسيا التي كانت هي وتوابعها تمثل الغرب حضاريا وحتى ثقافيا؟ ام الغرب الجديد الذي يتجسد في القوة العظمى الجديدة الولاياتالمتحدة. يبدو ان الامر سيان لان رابطة التماثل الديني بين الغرب الجديد والغرب القديم هي اقوى من اي حلف وابقى, وهذا قد يقودنا بالضرورة الى استيعاب الدور الذي تريد ان تلعبه امريكا في المستعمرات السابقة لحلفائها, ولكن كمستعمر جديد, هذا الدور مهما (تعصرن) هو في اشكاله المتلونة امتداد للعقلية الصليبية - على الاقل كدافع وكأداة لنيل الاجماع في ظل الحقد الموروث الرامي الى انتهاك خصوصياتنا وارزاقنا - ألم يعلن بوش الابن الحرب الصليبية بنفسه وان كانت زلة لسان بعد احداث 11 سبتمبر؟ يقول فرويد عالم النفس الشهير: ان زلة اللسان هي الحقيقة المكبوتة في العقل الباطن او اللاوعي او في الحجرة الخلفية لدى الانسان لو صح التعبير حيث يحتفظ هناك بكل الرغبات التي يتمنى تحقيقها, والتي لا يستطيع الكشف عنها لاعتبارات مختلفة, وهكذا يبدو ان الغرب الجديد قد قتل كل الاعتبارات التي كانت تحول دون الافصاح عن مكنوناته ورغباته بعد ان ارهب الجميع في حربه على الارهاب حيث اخذ يمارس ما تمليه عليه رغباته ومصالحه من دون اي اعتبار لاية شرعية دولية او اي حساب للآخر. وهذا الوضع يدفعنا الى البحث عن الاسباب التي وفرت المناخ الملائم لهذا الطرح غير المقبول. ومن خلال استقراء الواقع العالمي يتضح لنا ان مواقفنا (كآخر) اخذت تتأرجح بين التصفيق والتأييد وهز الرؤوس بالموافقة واحيانا البصم الاعمى على كل ما يقوله الجلاد الذي يمسك السوط بيد, وكلبه المدلل باليد الاخرى. لعل هذا التفاني المهين في تنفيذ الاوامر واعتبارات اخرى مرسومة مسبقا هو الذي دفع بوش الابن في سبتمبر 2002م الى اعلان استراتيجية امنية قومية جديدة، اكد خلالها انه سوف يحتفظ بالسيطرة على العالم دائما, وان اي تحد سوف يقابل بالقوة وبالقوة فقط. هذه الاستراتيجية الاستعمارية الكبرى تؤسس لنظام وحيد القطب كما يقول نعوم تشومسكي حيث لادولة فيه ولا تحالف قادر على الوقوف امامه كحاكم للعالم وحامي حماه والمنفذ لما شاء فيه. إن هذه الصورة تذكرنا بالفاشية والنازية, ولكن يبدو ان خطر القوة المعاصرة اكبر وأعم, والسبب هو الاحادية والتفرد لدولة تؤمن بأنها تمتلك مفاتيح الكون للتحكم فيه, هذا من جهة, وتخاذل الشعوب المقهورة والغارقة في الفقر والديون والاضطهاد من جهة اخرى. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا, والذي كان الموضوع الرئيسي في النيوزويك, وايضا على رأس موضوعات جريدة البوست منذ عدة اسابيع وهو: لماذا يخشى العالم الولاياتالمتحدة لهذه الدرجة؟ لقد اعتبرت تلك المقالات ان الخوف من الولاياتالمتحدة في جميع انحاء العالم امر غير عادي, بل هو امر شديد التطرف, وان العالم مصاب بشيء غلط حسب تعبيرها, هذا ما قاله الامريكيون انفسهم, لكن هل فحوى السؤال صحيح؟ اي: هل ما يحرك ردود افعال العالم كله هو الخوف؟ ام هو جزء من الانجاز المبهر لدعاية وسائل الاعلام الحكومية في الولاياتالمتحدة؟ وهل هذا مبرر كاف لتخاذل بعض الحكومات العربية امام حملات الابادة العرقية والعقائدية التي يرتكبها الغرب الجديد بحقنا؟ وهذا الشيء المخيف أهو عملاق يريد ان يبتلع الكون من باب التسلط والقوة؟ ام هو هزيل يريد ان يسد جوعه من ارزاق الضعفاء ومقدراتهم؟ يكفي ان نعلم حجم المديونية العامة للولايات المتحدة والعجز المسجل في الميزان التجاري الامريكي لنفهم اية صورة من الصورتين تتطابق مع بطل اساطيرنا الشعبية الحديثة. ان مديونية الولاياتالمتحدة ارتفعت من 4 آلاف مليار دولار عام 1980 الى 14 الف مليار دولار عام 2000, اما العجز في الميزان التجاري فقد كانت 150 مليار دولار عام 1995 ليصبح 250 مليار دولار في عام 1999 ومن ثم 450 مليار دولار عام 2000 الى جانب هذا تؤكد كل المؤشرات على ان النشاطات الاقتصادية هبطت الى ادنى مستوياتها منذ 1962 وقد خفض البنك الفدرالي فوائد الربح تسع مرات منذ بداية عام 2000 من اجل تحفيز الاستثمار, كما ان التخفيضات المقررة على الضرائب من اجل تشجيع الاستهلاك لم تقض على الركود, وتقهقرت القروض الاستعجالية للبنوك الى ادنى مستوى منذ 43 سنة. امام هذه الوضعية يقول روجيه جار ودي: يتضح جليا ان الولاياتالمتحدة دخلت - خاصة بعد النشوة المالية التي عادت بها عليها الحرب العالمية الثانية - في مرحلة تميزت برأسمالية منحطة ومترهلة الى رأسمالية كلاسيكية تسعىالى تكوين الرأسمال على المدى الطويل من اجل تحقيق الاستثمار في المؤسسات المنتجة, بينما النظام الحالي للاقتصاد الجديد لا يتعطش الا للربح على المدى القصير المتحصل عليه ليس بالانتاج, وانما بالمضاربة على التغيرات العشوائية لمعدلات الصرف او تقلبات الاسعار. قد يتخيل البعض ان هذا قد يعود علينا بالفائدة, لكن افكار كهذه لن تصدر الا عن خيال مريض او منتفع ومن يقرأ التاريخ سيجد صفحاته مملوءة بالشواهد التي تؤكد ان للاستعمار اهدافا محددة: فالى جانب التغريب - الرامي الى محو اللغات المحلية ومحو الهوية - سنجد ان النهب والسلب والهيمنة بكل اشكالها, والحفاظ على المصالح هي من المحاور الاساسية لاي مستعمر, هذه هي الحقيقة مهما حاول المموهون تجميلها, بما يصبغونه عليها من صفات القومية لأغراض تكتيكية. لعل ما صرح به نيكسون في عام 1991م غداة حرب الخليج الثانية يقدم دليلا من ادلة كثيرة حولنا اذ قال: لن نذهب الى هناك للدفاع عن الديمقراطية.. لن نذهب الى هناك للاطاحة بدكتاتورية, لن نذهب الى هناك للدفاع عن الشرعية والقانون الدولي بل نذهب الى هناك,, ووجب علينا ان نذهب لاننا لا نستطيع السماح لأحد بان يمس المصلحة القومية لاميركا باسم المصلحة نفسها. اعلنت الادارة الامريكية الحرب على الارهاب وباسمها احتلت افغانستان والعراق ناهيك عن تدخلاتها على مدى العقود الماضية في كوبا, وغواتيمالا, وفيتنام, ونيكاراغوا, وليبيا وبنما وغيرها.. والحبل على الجرار. ويبقى السؤال مفتوحا: على من ستقع القرعة المشؤومة لاحقا؟ ربما لم يعد مهما لاننا جميعا مستهدفون بعد ان ادخلونا في القفص, والسؤال المهم هنا: ما اهداف امريكا الاستراتيجية من كل ما يجري؟ يقول روجيه جار ودي ان اهداف امريكا واضحة: في مرحلة أولى: الخروج من حدود افغانستان باتجاه بحر قزوين. ثانيا: تأمين طرق الامداد نحو الشرق والغرب, وهذا لهدفين: تمرير قنوات البترول من بحر قزوين الى الخليج العربي, والزحف نحو آسيا الوسطى, وتوخيا لصراع محتمل مع الصين تعمل على اقامة قواعد عسكرية. اما بالنسبة لأوروبا: تمرير البترول انطلاقا من باكو الى تريست مرورا بنوفوروسيك ويوغوسلافيا وربما تركيا. لقد قالها بيل كلينتون منذ اعوام: هدفنا سيكون الآن اوروبا لاننا سيكون محتوما علينا ان نمرر من هناك كل امدادنا النفطي عندما نكون قد استولينا على آبار بحر قزوين. قال بوش الابن: ان الارادة الالهية اختارته للقضاء على محور الشر, وترجمت الآلية العسكرية اقواله الى افعال, وواكبت تصريحاته بطانته بصور مباشرة بشكل مرير ومخجل لانها تعكس بالدرجة الاولى الحجم الميكروبي الذي ترانا به الادارة الامريكية بمعزل عن حقيقة الامر.