صدرت قبل أيام عن دار "ديدريشس" في ميونيخ الترجمة الألمانية لرواية الكاتب السعودي الكبير عبد الرحمن منيف "مدن الملح". وهي رابع رواية تترجم له إلى اللغة الألمانية بعد "شرق المتوسط، وسيرة مدينة، والنهايات". وتأتي ترجمة هذا العمل الملحمي الكبير، الذي يتناول اكتشاف النفط في السعودية والمراحل الأولى في بناء الدولة، في وقت تحتل فيه السعودية صدارة الاهتمام لدى الدوائر السياسية الكبرى في العالم وخصوصاً بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر. وبهذه المناسبة قام الزميل أحمد حسو بإجراء الحوار التالي مع الروائي الكبير منيف أستاذ عبد الرحمن، منذ ووقت طويل كان يجري الحديث عن ترجمة عملك الكبير مدن الملح إلى اللغة الألمانية عن دار لينوس السويسرية، وهي الدار التي نشرت كل رواياتك المترجمة إلى الألمانية حتى الآن، واليوم فوجئنا بصدورها عن دار "ديدريشس"في ميونيخ، أولاً ما شعورك وأنت ترى هذا العمل الهام يبصر النور باللغة الألمانية، وثانياً هل لك أن تطلعنا على خلفيات ما حدث؟ عبد الرحمن منيف : بالطبع أنا سعيد جداً بصدور هذه الرواية تحديداً باللغة الألمانية نظراً لحجمها الكبير وصعوبتها. وأقدر أن المترجمتين لاقتا صعوبات جمة في الترجمة نظراً لكون جزء كبير من الرواية كتب بلهجة عامية ذات مواصفات خاصة. صدور هذا العمل باللغة الألمانية يعد نوعاً من الخطوة المتقدمة وأتمنى أن يلقى صدى إيجايباً لدى القارئ الألماني. ومن جملة العوامل التي تعطي هذا العمل تميزه هو أنه يصدر في مرحلة دقيقة جداً، مرحلة يشتعل فها الشرق الأوسط بكامله ويواجه تحديات كبرى. وبلا شك فإنّ هذه الرواية ستساعد كمرآة في قراءة هذا الواقع ومعرفة كمٍ كبير من تفاصيله. أما بالنسبة إلى الشق الثاني من سؤالك فقد كان هناك نوع من فكرة مبدئية لم تتبلور بشكل كامل. وأقدر أنّ أي دار نشر، خصوصاً إذا كانت صغيرة، سوف تردد في التعامل مع مثل هذه الرواية، لأنها مجهدة من ناحية وتحتاج إلى نوع من المقاييس والمستوى في التعامل مختلف عن الروايات القصيرة والعابرة. وبالتالي،لم تلاحَق الفكرة ولم تتبلور إلى أن جاءت الدار الجديدة وأقدمت على هذا العمل. وأنا من جهتي أرى أن صدورها في هذا الوقت هو أكثر ملاءمة من أي وقت مضى، وجل ما أتمناه أن تصل رسالتي إلى القارئ الألماني. اليوم أصبحت هذه المملكة محط أنظار العالم خصوصاً بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر والعلاقة الجديدة والمعقدة بينها وبين الولاياتالمتحدة. هل تعتقد أنّ روايتك ستلقي الأضواء على هذا الأمر وتساعد القارئ على فهم ما يجري؟ عبدالرحمن منيف : أقدر أنّ الرواية يمكن أن تضيف جوانب معينة في وضع الشرق الأوسط ومناخه وبالتالي همومه. ومما لا شك فيه أنّ الحافز الأساسي لدي لكتابة هذه الرواية، كان الإحساس بأنّ موضوع النفط بحاجة إلى معالجة وإلى معرفة التأثيرات الكبيرة التي حصلت نتيجة وجود هذه الثروة. ومن البديهي أنّ إلقاء الأضواء على جزء من ماضي هذه المنطقة سيساعد في قراءة الواقع الراهن ومعرفة هذا الغليان أو هذا الوضع الاستثنائي المتفجر. ولعل السعودية هي إحدى هذه المناطق التي هي بحاجة إلى إعادة نظر. فالسعودية بصيغتها السياسية الحالية، بنظرتها، بمنطق الحكم السائد فيها، هي نوع من الصيغ التي قد تلائم مرحلة سابقة، أما الآن فلابد من تجديد وتحديث الدولة والمجتمع وإشراك القوى، التي تكونت وأصبح لها حضور كبير على أكثر من مستوى، في القرار. كنا نفضل ألاّ تتدخل القوى الأجنبية وخصوصاً أمريكا في الشؤون الداخلية للبلدان الأخرى،. ومن الطبيعي أنّ العلاقة الأمريكية السعودية، التي مرت بعدة مراحل صعوداً وهبوطاً، لم تعد متكافئة أو متوازنة بحيث أصبح الأمريكان، الذين دعموا المملكة، أيضاً مضطرين إلى إعادة النظر في المرحلة الحالية. وهو الأمر الذي نلاحظه من خلال الصحافة الأمريكية ومن خلال القوى والمناخات التي وجدت نتيجة أحداث الحادي عشر من سبتمبر. وبالتالي أصبح موضوع السعودية على نار ساخنة كما يقال ولا بد من إحداث التغيير. وطبيعي أنّ المرء يتمنى أن يحدث التغيير داخلياً وطبيعياً وبمشاركة كل القوى التي تتطلع إلى مستقبل أفضل. *مدن الملح هي الرواية العربية الأولى التي تتناول موضوع النفط بهذا الشكل الملحمي، والسؤال الذي يخطر على بال كل قارئ لماذا أسميتها مدن الملح وليس مدن النفط الذي هو أقرب إلى موضوعها، بل هو موضوعها الأساس؟ منيف : ما تقوله صحيح، فهو العنوان الأكثر ملاءمة لموضوعها وعندما يفكر الإنسان للوهلة الأولى لاختيار عنوان لهذه الرواية فسيقع اختياره على مدن النفط، لكني قصدت بمدن الملح، المدن التي نشأت في برهة من الزمن بشكل غير طبيعي واستثنائي. بمعنى ليست نتيجة تراكم تاريخي طويل أدى إلى قيامها ونموها واتساعها، إنما هي عبارة عن نوع من الانفجارات نتيجة الثروة الطارئة. هذه الثروة أدت إلى قيام مدن متضخمة. الشيء نفسه ينطبق على الملح. فبالرغم من أنه ضروري للحياة والإنسان والطبيعة وكل المخلوقات، إلا أن أي زيادة في كميته عندما تزيد الملوحة، سواء في الأرض أو في المياه تصبح احيانا غير قابلة للاستمرار. هذا ما هو متوقع لمدن الملح التي أصبحت مدناً استثنائية بحجومها، بطبيعة علاقاتها، بتكوينها الداخلي الذي لا يتلاءم وكأنها مدن اصطناعية مستعارة من أماكن أخرى. وكما قلت مراراً، عندما يأتيها الماء، عندما تنقطع منها الكهرباء أو تواجه مصاعب حقيقية من نوع أو آخر سوف نكتشف أنّ هذه المدن هشة وغير قادرة على الاحتمال وليست مكاناً طبيعياً لقيام حاضرات أو حواضن حديثة تستطيع أن تستوعب البشر وأن تغير طبيعة الحياة نحو الأفضل. معرض فرانكفورت الدولي للكتاب اعتمد الأدب العربي موضوعاً أساسياً له لعام 2004 ، هل تعتبر هذا الأمر اعترافاً متأخراً بالأدب العربي، أم أنه نتيجة لتزايد حركة الترجمة من الأدب العربي إلى اللغة الألمانية؟ منيف: يمكن اعتبار العاملين، قد يكون هناك تفاوت بين عامل وآخر لكن برأيي الاثنان يكملان بعضهما. إجمالاً يشعر الإنسان بأن التواصل الثقافي بين الحضارات واللغات والشعوب لايزال في حده الأدنى خاصة فيما يتعلق بالعالم المتقدم والعالم النامي. فالعالم النامي لا يزال على هامش الثقافة والحضارة الفكرية هكذا ينظر له وهكذا يتم التعامل معه. وطبيعي أنّ هذا ما أدى إلى تأخر في اكتشاف جوانب معينة من هذا العالم وعدم دخوله إلى المعترك الحقيقي للثقافة خاصة في مجال الفنون، الرواية والشعر والفن التشكيلي وما شابه. فأنا أعتبر أن يأتي الاعتراف متأخراً خير من ألا يأتي نهائياً، ومما لا شك فيه أن اعتبار السنة القادمة سنة الأدب العربي هي التفاتة مهمة وضرورية. وأعتقد أنه من خلال عرض جيد يبين صورة الأدب والفكر العربي في مرحلته الراهنة، خصوصاً إذا تم، في الفترة التي تفصلنا عن المعرض (خريف 2004)، اختيار روايات وأعمال فنية تستطيع أن تقدم الوجه المضيء للأدب العربي المعاصر. هذه أمنيتنا جميعاً وعلينا أن نحث أن يكون هذا الأمر جهداً مشتركاً بين طرفي المعادلة، أي الألمان والعرب. فعملية الترجمة يجب ألا تبقى مجرد جهد ألماني، وإنما يجب القيام بجهد عربي أيضاً يتمثل في الجامعة العربية وفي مراكز الترجمة وفي أوساط الجامعات العربية والجهات التي تعتبر أنّ رسالتها هي أن تحاور الآخر وتقدم نفسها من خلال رموز وأعمال قد تستطيع أن تضيء جوانب أفضل حول الصورة العربية. لأننا في الواقع (نحن العرب) مأخوذين فلوكلورياً دون أن تكون هناك معرفة ومتابعة للإنتاج العربي بشكل موضوعي ونزيه. إ نما ينظر إلينا كنوع من الصيغة المختلفة والغريبة وحتى في بعض الحالات العجائبية. أتمنى أن تتم قبل الوصول إلى فرانكفورت اختيارات أكثر جدوى وأكثر تمثيلاً للأدب العربي المعاصر. عن DW