المكان يبدو غريباً، كأنه ينتمي إلى زمان آخر، وأنت تدخله كأنك تقتحم عالماً اسطورياً يذكرك بألف ليلة وليلة .. تلك الأجواء التي بقيت في الذاكرة من أفلام أدركت خصوصية الماضي فاستحضرته ليمنح الحاضر ..غموضاً جذاباً .. الملابس الحديثة المعلقة على واجهات المباني القديمة تجسد المفارقة المدخل الضيق المتمثل في حارة يغمرني بحالة من الأنجذاب كلما زرت المكان والسؤال الذي يلاحقك دائماً هو عن سبب هذه التسمية: وكالة البلح، غير أن السؤال دائماً كان يضيع في ازدحام المكان الذي يمنح الزائر شعورين متناقضين: الأول هو الاحساس بحميمية المكان لكونه قديماً أما الثاني فهو الضيق من الضوضاء غير المعتادة، لكن الشعور الثاني لا يلبث أن يتراجع أمام الفضول .. فدائماً هناك جديد . عالم فسيح رغم ضيق حاراته التي تجذب الزائر، حتى لو لم يكن في نيته أن يشتري فالمحلات المتجاورة إلى درجة التداخل تقوده بمعروضاتها المعلقة على الجدران، فإذا اعتقد أنه وصل إلى نهاية الطريق فوجىء بأنه يدخل تلقائياً في شارع آخر ربما أقل أتساعاً من سابقة ليبدأ من جديد، أنها رحلة ممتدة بين مداخل ومخارج متعددة . حاضر المكان يختلف عن ماضيه بكل تأكيد، لكن ملامح هذا الماضي تبقى حية في ذاكرة المكان والبشر الذين يحكون قصة البداية التي ترجع إلى القرن 18 عندما شب حريق بالمنطقة فدمرها تماماً لتظل مهجورة حتى جاءت الحملة الفرنسية فتحصن بها المصريون لمواجهة الفرنسيين، وعقب رحيلهم استغل تجار القطن المنطقة كمخازن للقطن الوارد عن طريق النيل لكن سرعان ما انتقلت تجارة القطن إلى الأسكندرية فاستغل تجار البلح المنطقة ثم جاء الاحتلال الانجليزي وتحول نشاط المنطقة إلى التجارة في مخلفات الجيش البريطاني، ثم بدأت المنطقة تكسب شهرة التجارة من الأشياء القديمة فأصبحت مقصداً لتجارة البالات التي يحصل عليها التجار من مخلفات السفن في بورسعيد، وتحولت المنطقة تدريجياً إلى مركز لبيع الملابس المستعملة، ومع الانفتاح بدأت تجارة الملابس المستوردة الرخيصة . تستطيع عبر تجولك في أرجاء المكان أن تميز بسهولة بين 3 أنواع من الملابس الموجودة في السوق، النوع الأول ويسميه التجار (الكريمة) وهي ملابس تمتاز بارتفاع أذواقها إلى حد ما، مما يجعل الأقبال عليها كبيراً رغم ارتفاع أسعارها بالنسبة للاسعار السائدة في الوكالة، أما النوع الثاني من الملابس فيصنف على أنه من الدرجة الأولى وهو أقل في جودته من سابقه لكنه يتميز أيضا بالاقبال الشديد عليه، وأخيراً ملابس الدرجة الثانية التي يجعلها سعرها الأقل أكثر انتشاراً واستعمالا .. في المقابل ستصادف عيناك ملابس أقل جودة، يمكنك ببعض التركيز أن تلاحظ أنها مستعملة ستتوصل إلى ذلك من قدمها النسبي ويطلق عليها التجار (ملابس البالات) أي الملابس المستعملة والتي يتم احضارها من ألمانيا وفرنسا وتركيا في بالات كبيرة توزن بالكيلو وتنقسم إلى نوعين فمنها ما يأتي مغلفاً وهنا سيكون عيبه الوحيد هو القدم لكنه لم يسبق استعماله ويعتبر سعره مرتفعا نسبياً بالنظر للاسعار السائدة في الوكالة لكن مقارنة بسعره خارجها فإنه يعد منخفضاً جداً حيث يصل سعر القميص الكتان أو الحرير الطبيعي إلى 20 أو 25 جنيهاً مصرياً، أما النوع الثاني من البالات فهو الذي سبق استعماله في تلك الدول الأوروبية ويمتاز بسعره الجيد الذي يناسب كل مستويات الدخل . المتجول بين صفوف المحلات والدكاكين المتجاورة في الوكالة يلاحظ انخفاضاً في السعر رغم تأكيدات المشترين بأن البضاعة تتشابه كثيراً مع محلات وسط المدينة، فعلى سبيل المثال البنطلون الجينز الذي يباع في وسط البلد ب 110 جنيهات معروض في الوكالة ب 30 جنيهاً فقط، وتظهر المفارقة أكثر وضوحاً في فساتين الأفراح حيث الفرق أكثر من الضعفين تجار الوكالة يؤكدون أن أسعارهم ليست وحدها هي التي تنافس وسط المدينة بل أن هناك ميزات أخرى كثيرة وكما يختلف الزمان فإن تفاصيل المكان أيضا تتغير لتحدث بعضاً من التعديلات البيئية التي ساهمت بشكل كبير في تتغيير ملامح المكان منها إنشاء مسارات جديدة لكوبري 15 مايو وتحويل مرور السيارات بصفة دائمة من منطقة الشارع الجديد لحدوث تعديلات مرورية إضافة إلى تحركات الباعة الجائلين في هذا المكان ببضائعهم قليلاً إلى داخل الوكالة أو مغادرتهم نهائياً بناء على أوامر من المحافظة .. ومع هذه التغيرات الدائمة والمؤقتة تضيق المساحات المخصصة للسير أو تتسع، الأمر الوحيد الثابت في كل الظروف هو الزحام والضوضاء وملامح الماضي الذي يتداخل مع الحاضر ليكتسب المكان جاذبيته . وكالة البلح: ازدحام يومي