وأخيرا... أسقطه التقويم من أوراقه ، بعد أن علق به لسبع سنوات. لم يتبق منها سوى يوم واحد على عودته لأرض الوطن، بعد أن أجهز على كل أمانيه وطموحاته العلمية وأصبح دكتورا متخصصا في... ( أيا كان ). يعود وقد برر استلقاء اسمه العريض على شهادات عدة. يعود وقد استمتعت به بلاد العم سام حتى ثلاثينية ناضجة . أو ربما بعد أن أشفقت سنين الغربة بحال والدة تشتهيه في بيت العدل الذي تأمل أن لا يكون (مايل). يعود سعود ثمرة حان قطافها. يعود صاحب الفك المتفتح وقد علمته السنون مختلف التجارب ، وارتقى وعيه بالحياة ليتناسب وقدرته على الاختيار بعيدا عن أية عيوب مجتمعية وفكرية تحجزه عن أرض العقلاء الذين يعرفون معنى جمال الروح واختلافه عن ثقافة الجمال ( أو هكذا ظننا) . أليس في السفر سبع فوائد كما يقولون!!. وهاهي العائلة أعدت كل شيء لاستقباله، أملا في أن تثبت أوتاده بزوجة صالحة. وكم يبدو وسيما بكل تلك الشهادات، فكيف إذا اكتملت وسامته بصورة جدارية لعروس جميلة؟ ويأتي ذلك الشاب المترف بالنضج وقد قارب الخامسة والثلاثين ليطلب من أخته أن تبحث له عن عروس . وتسأل الأخت سؤالا اعتياديا: كيف تريدها؟ (أن لا تتعدى الثمانية عشرة خريفا ( أقصد ربيعا)، جميلة، بيضاء ، طويلة ). لماذا تريدها ثماني عشر سنة وأنت في الخامسة والثلاثين ؟ سأله صديق في دهشة . سيكون من السهل علي أن أربيها على يدي. (لاحظ) ولماذا جميلة بهذه المواصفات بالتحديد ؟ مازال الصديق يتعجب. أريد أطفالا حلوين. وبعدين يا أخي الله جميل يحب الجمال. ويشارك المسرحية صديق آخر عُرف بخبثه: ألا تريد فتاة ناضجة تعينك على الحياة وقريبة من عمرك؟ لا لا.. ستكون عجينة قاسية يصعب تشكيلها .(ربما لأنها تعرف حقوقها والحقوق ممنوعة عند بعض الرجال). لم يستطع الصديق إسكات استغرابه: لم يتغير فيك شيء يا سعود بعد هذه السنوات التي أبليتها في التعلم والثقافة إلا ثوبك. مازالت أفكارك متصحرة. إنها خيبة ومصيبة أن تكون تلك نظرتنا لمن تشاركنا الحياة بأكملها. ليس العيب أن تأخذها صغيرة، المشكلة ما تراه في صغر سنها. ويتزوج سعود وتزفه الأفراح إلى عالم متيبس الأطراف، يبدو فيه كل شيء جميلا. زوجة جميلة وأطفال حلوين وجيران وأصدقاء. هكذا أعد له حلمه طبق الحياة المثالي. مضغت السنوات خمسا من عمره، ومعها كبرت الصغيرة ولكن لم تكبر بمستوى عقله. (سطحية ولا تتفهم ما أريد وما أحتاج. همها كله أمور اعتيادية. مللت هذا الروتين. احتاج إلى انسانة ناضجة حتى لو كانت تكبرني). هكذا أدلى سعود باعترافاته المثخنة بخيبة أمله لصديقه، وبعد أربع زهرات أصبحن يمتلكن اسمه مدى العمر. في لحظة غفوة من الواقع ( فهو يخاف من إعلانها ويفضلها سرا فقد يكتشف أحد أنه أدرك خيبة منطقه). وتتكرر الحكاية في ألف قلب وألف مصير. فإما تعاسة تُعاش عمرا بأكمله خوفا من ذبول الزهرات دون أب. أو قرار يضع الحياة على طرف عصا لا يمكن معرفة متى ستقع وتودي بسعادة من عليها في زواج آخر. فكلنا نعلم بأن شباب اليوم ليسوا هم القادرين على إجادة فن الزواج الثاني كما كان آباؤنا. لماذا تسقط في عقولنا استراتيجية الاختيار وفن الاعتزال عن السطحية الفكرية رغم ما تكافئنا به الحياة من علم؟ لماذا ننتظر حتى تأكلنا دودة الأنانية في اختيار غير سليم لمجرد أنه يناسب الآخرين رغم أنه أضيق من مقاساتنا؟ لماذا علينا أن نحفظ تلك الفتاة الثلاثينية في ثلاجة الجثث حتى يرأف بها مترف الزواج هذا رغم علمه بمدى تفتحها على أمور الحياة والزواج مسبقا؟ ما ذنب تلك الصغيرة أن تشقى بزوج هوايته التحنيط؟ أليست أعمارنا لها الحق علينا في حسن الاختيار والتروي؟ تلك الصور الفوتو اجتماعية رصدتها عدسة الواقع ، فالقصص كثيرة ، والبيوت لم تعد أسرارا.