ذلك اليوم- هو الجمعة بلا ريب- ساعة ما قبل المغيب تحديداً. ثمة شيء ما، ربما يد إنسان تتحرش بك ان تخلد إلى نومك، لتصحو في الحلم على أثر ارتطامك بالمشهد البعيد.. تنتبه إلى الرضوض فإذا هي قد كبرت وغارت بعيداً إلى الحد العصي على الاندمال. جراح كثيرة استطعت أن تتجاوزها بمرور الوقت، موت عاهل، إهانات، إخفاق، وحرمان، تحكي تفاصيلها الآن بحياد كأنك تستدينها من ذمة الزمان من أجل الوفاء لها فقط، بيد أنها لم تعد ضمن مقتنياتك. فقد تعلمت بالوراثة أن تصدق كل الشائعات التي كان أهل قريتك يروجونها مثل مبدأ أن الصعوبات التي تذل الإنسان ويعجز عن التصدي لها فإنها ستزول ويوم فرم جنزير الدراجة كاحلك آنذاك وأوقعتك مهرتك الصغيرة أرضاً لم تجد عكازاً تسند ضعفك يومها غير تلك الكلمات التي رماها جدك القاعد في شمس الضحى يمضغ رطب أول النهار إذ حصبك بالنواة وقال بدون أن يحرك فيه شلال الدم على كعبك أية عاطفة: * قم تكبر وتنس!! بلل الألق ملامحة لما رآك تنهض بخفة وأضاف بطريقة احتفالية: * ونخطب لك العروس. فلم تتمالك على أثر غاشية الخجل التي امتطى وجهك لونها إلا أن تستأنف قيادة دراجتك وتلوذ بالفرار تطاردك ضحكاته المتدفقة على هيئة وصلات رعد صغيرة ومجلجلة. وفي الأيام التالية، ما كان يخطر في بالك أيها الولد الغر الانصياع لتلك المواعظ البالغة في غرابتها، ما كان يخطر ذلك في بالك أبداً وحين شاهدت " مريم" تتعثر في حاشية عباءتها، في ذلك اليوم الذي لن تنساه كمنعطف خطير في تاريخك الشخصي فسرت المشهد على أنه ليس سوى بنت صغيرة تتسلف عباءة أمها من قبيل التجريب، وهكذا عانقتها مكباً على أطرافك الأربعة وشرعت تعوي مرتجلاً في الحال مسرحية أنت تستحوذ فيها على دور الذئب الجائع إلى عنزته الجميلة، وكنت بالفعل مصمماً على أن تمضغ عباءتها، فلم يدر في خلدك أنها سوف تختفي إلى الأبد إلا عندما انتهرتك أمك بقسوة، وكأنها تتقمص دور الراعي لولا تلك الجدية التي تعرفها جيداً قائلة: ان البنت كبرت(!!) وسرعان ما فهمت أنها تتعمد أن تضع على اسمها المغروس في ذاكرتك كعشبة برية حجراً أو غلالة سوداء. ذلك اليوم- هو الجمعة بلا ريب- ساعة المغيب كان الفتى يختلس وقته الضيق من أوقاتهم ويتسلل إلى بيتها.. ويتدلى من ذراعيه تحت الشرفة شاخصاً باتجاه المرأة الصغيرة تتجول فوق السطح كفراشة معتقلة. يقول لها بلهجة تحمل كل تحدي الأطفال: * هيا، انزلي، ثم يسحب ورقة اللعب من جيبه ويفردها على نحو بهلواني، أنهم في الصلاة. وبدورها سددت إليه سهماً مراشاً بالرعب: * عبود! هل يمكنني أن ألد كالنساء بسبب الدم؟ * أي دم، هل جرحت أيضاً؟ لكنها أجفلت حينما أفاقت على فظاعة السلوك الذي قامت به، وولجت إلى الداخل تاركة الولد يلعق الأسئلة تلو الأسئلة. قرب العتبة يحدث أن يعثر الطفل على وردة حمراء مرمية في تلك المساحة من الممر غير النافذ بين البابين، خشبة مسرحهما اليومي، من الرائحة تعرف هذا الولد لأول مرة على الأسرار!! من الرائحة وحدها. يتذكر أنهم خلعوا عليها في تلك الأيام البعيدة لقب " البنت المخبية" بعض النساء كن يتحاشين المرور على اسمها الحقيقى بدافع الحسد. تصل إليه أسرارهن التي تمجد حلاوة عينيها.. ضحكتها الدافئة.. شعرها الهارب سبطاً ناعماً للدرجة التي تجعل الماشطة تفرش لها بساطاً أثناء التسريح. يتذكر حتى أكاذيبها العذبة وهو يسترق السمع لكي يتخيل هذه الأسطورة، ويتمنى أن يراها. هي البنت الصغيرة التي كانت ذات يوم في مثل سنك، ويدوم فيك ذلك الصوت: * قم تكبر وتنس هل أصبحت كبيراً حقاً؟ تصحو، تتجرع كأس الماء ثم تحاول أثناء ذهابك إلى العمل أن تجمع نسيانك من فضلات نسيانها.