توفي مؤسس أول دولة اشتراكية في التاريخ فلاديمير أوليانوف (لينين) في 21 يناير عام 1924 في بلدة غوركي غير بعيد من موسكو قبل أن يكمل الرابعة والخمسين من عمره ببضعة أشهر. وبعد مضي أربعة أيام من وفاته اتخذت السلطات السوفيتية العليا قرارا بإقامة قبر عند جدار الكرملين في الساحة الحمراء يضم جثة لينين في ضريح وجعله مزاراً ومحجا لكل من لم يتمكن من المجيء إلى موسكو لحضور مأتم الدفن. بعد وفاة لينين شرّح أحد كبار المشرحين وهو ألكسي أبريكوسوف، كما جاء في بروتوكول أستخرج من الأراشيف السوفييتية السرية، جثة رجل كهل سليم البنية ذي غذاء مرضٍ. وآنذاك تم أول تحنيط للجثة بإدخال المحلول المعتاد المؤلف من الفورمالين وكلوريد الزنك والكحول والغليسرين والماء. ولم تنتزع الأعضاء الداخلية بطريقة التحنيط هذه. وقد أتاحت هذه العملية الحفاظ على جسم الميت فقط من الانحلال السريع. وكانت ثمة آراء مختلفة حول جسد لينين. فبينما أصرت زوجة لينين ناديجدا كروبسكايا كل الإصرار على مواراة جسد زوجها الثرى، دعا الأمين العام للحزب يوسف ستالين في كلمته الختامية إلى الحفاظ على الجثة ووضعها في ضريح خاص لتكون قبلة الأنظار. وكان بديهيا ان تنتصر وجهة نظر ستالين. وحتى بعد إجراء مراسم الدفن الرسمية واصل الأطباء إمعان الفكر في كيفية الإبقاء على الجثة فترة طويلة دون أن تنحل وتتفكك. في البداية ألح عضو لجنة الدفن المهندس ليونيد كراسين على تجميد رفات لينين بالثلج، ولأجل هذا اشتريت في الخارج معدات غالية الثمن. ولكن الجثة بدأت تنحل قبل أن يتم التمكن من تركيب المعدات المشتراة. في هذا الوقت أدلى البروفسور أبريكوسوف إلى الصحافة بحديث زعم فيه عدم إمكان الحفاظ على الجثة طويلا من ناحية المبدأ. غير أن البروفسور فلاديمير فوروبيوف عارض هذا الرأي قائلا: إنه لاحظ أن مستحضرات التشريح في مختبره تحفظ حفظا ممتازا مدى عشرات السنين. آنئذ تم استدعاء البروفسور فوروبيوف وعرض عليه أن يتخذ في الحال التدابير اللازمة. فبدأ فوروبيوف مع زميله بوريس زبارسكي معالجة رفات لينين بالفورمالين وخلّ الصوديوم والغليسرين. ولدى مزج هذه المواد الكيميائية تكوّن سائل شفاف لا رائحة له. وقد تبين انه فعّال جدا واستخدم بنجاح مدى فترة طويلة من الزمن إلى أن أخلت هذه الطريقة المكان لتقنيات أكثر عصرية. إليكم ما يقوله ابن زبارسكي الأكاديمي إيليا زبارسكي الذي سار على خطى والده: لكي تبقى المومياء في حالة طبيعية لابد أن يعتنى بها الاعتناء الدائم. ولذا راح اختصاصيو المختبر (الذي حول لاحقا إلى مركز تدريس طرائق وتقنيات الطب الأحيائي) مرتين أو ثلاثا في الأسبوع يمسحون يدي ورجلي لينين بمحلول خاص، وإذا اقتضى الأمر، يزيلون مختلف التشوهات: الاسوداد والعفن المتأتي من فعل الفطريات. وبما أن المومياء كانت مع الوقت تجف شيئا فشيئا كان الضريح يغلق مرة كل سنة أو سنة ونصف السنة للقيام بالأعمال الوقائية. فكانت الجثة توضع في مغطس مليء بمحلول مغذ وتزال عنها التشوهات في تلك الأماكن التي يسترها اللباس عادة. وبعد ذلك ظهرت وسائل جديدة للتحكم في حالة المومياء كالبرادات (الثلاجات) مثلا، بحيث تم التمكن من الاحتفاظ في صالة الحِداد في الضريح بدرجة حرارة ثابتة هي زائد 16 مئوية. وحتى بداية الأربعينيات من القرن العشرين كان معتبرا أن تحنيط جثة لينين في العام 1924 تم بأروع ما يكون. يشهد على هذا، مثلا، المحضر الصادر عن لجنة خبراء مختصة بتفحص وقبول رفات القائد بعد الانتهاء من الإجراءات الأساسية للمحافظة عليها مباشرة. وأكد المحضر أن كل الأنسجة اللينة مشبعة اشباعا منتظماً بمواد التحنيط بواسطة نظام مدروس جيدا ومنفذ تنفيذا متقناً، كما كان معتقداً، من الشطوف السطحية والغائرة المتصل بعضها ببعض. وبفضل المحلول الذي لم يكن مسموحا بالإفصاح عن مكوناته كان الجلد يعالج بتفنن جعله يكتسب لون وليونة النسيج الحي. أما البروفسور يوري روماكوف الذي يعمل في المركز منذ نصف قرن ففند في مؤتمر صحافي عقده مؤخرا في موسكو بقوة ما يقال ويُزعَم من أن الراقد في الضريح لم يعد منذ فترة طويلة جسد لينين، بل هو جسد شبه له، أو حتى دمية من الشمع لا أكثر. هذا الأمر لم يكن أصلا ممكن الحدوث، ذلك أن لجنة كانت تشكل كل خمس سنوات تضم إلى جانب أعضاء الحكومة وممثلي الأجهزة الأمنية المختصة كبار الأطباء السوفيت والروس. وكان جسد لينين يرفع أمام ناظريهم من الناووس الموجود فيه ويتم فحصه بكل عناية. ولو أن المسافة بين نقطتين مثبتتين في جسد زادت مليمتراً واحدا فإن هذا كان سيعني الكارثة فعلا. وابتداء من العام 1972 باتت تستخدم لأجل أعمال التحقق هذه آلة تصوير فريدة من نوعها تصنع في مصانع خاصة وجهاز يراقب لون الجلد. هذه الأجهزة الدقيقة للغاية تسجل تسجيلا موضوعيا كل انزياح (يساوي عشر المليمتر) وكل تكدر واسوداد في لون الغطاء الجلدي لا يلمحه نظر الإنسان. وخلال السنوات العشرين الأخيرة لم تسجل الأجهزة أية تغيرات. وهنا يجدر أن نلحظ أن الطبقة الخارجية فقط من جسم لينين كانت تحفظ حفظا دقيقا. أما دماغه الذي يهم كثيرا العلماء فيحفظ في وعاء خاص يتضمن حوافظ في معهد الدماغ، وقلبه معروض في متحف لينين. وليست هناك معلومات دقيقة حول باقي أعضاء الجسم الداخلية، إلا أنها على الأرجح قد دفنت. وعندما دخلت روسيا الحرب العالمية الثانية في نهاية يونية عام 1941 تقرر أن يجلى جسم لينين إلى نقطة بعيدة في روسيا. واختيرت لأجل هذا مدينة تيومين في سيبريا التي نقل إليها في ظل السرية التامة جسد لينين في قطار خاص. ولم يكن مبنى المعهد الزراعي المتوسط في تيومين المجهز على عجل ليكون ضريحا مؤقتا ذاك المكان الصالح تماما لهذا الغرض. ولأغراض السلامة أحيط المبنى إياه بسياج عال ومحكم، بينما سدت نوافذ الطابق الثاني الموجودة فيه المومياء. ولذا سرعان ما اكتشف زبارسكي الأب أن طريقته باتت بعد حين تكتنفها أعطال. فأوصل هذا الأمر في الحال إلى مسامع ستالين الذي أمر باتخاذ إجراءات على عجل تمنع وقوع ما لا يمكن إصلاحه. وفي نهاية العام 1943 أشار زبارسكي في تقرير مفصل عرضه على لجنة حكومية إلى أنه تم التمكن من إغلاق جفني لينين مجددا وإزالة معظم البقع التي كانت موجودة على شتى أجزاء الجسم. كذلك أعيد تحنيط كعبي وأصابع القدمين كما أعيد إليها شكلها تماما. وبفضل الحقن والتشبيع بسائل التحنيط أعيد إلى الجسم أيضا وزنه البالغ 54 كيلوغراما. وكان عمل السنتين وأكثر في الواقع بمثابة إعادة تحنيط كلية لرفات القائد مع إزالة كل الأعطال اللاحقة به من جراء نقله إلى تيومين. وقيمت اللجنة عاليا العمل الذي نفذ وحصل بوريس زبارسكي بعد قليل على جائزة ستالين، وبعد عام آخر نال لقب بطل العمل الاشتراكي. وفي العام 1945 عندما انتهت الحرب أعيد جسم لينين بحذر كلي مجددا إلى موسكو. ومنذ لحظة إقامة ضريح لينين في موسكو سجلت بضع محاولات للتطاول على جسم لينين. غير أن رجال أمن الدولة كانوا عادة يحبطونها في الوقت المناسب. ففي العام 1968 أطلق رجل مريض نفسيا على الناووس مطرقة. وقد جاءت الضربة قوية لدرجة أن الغطاء الزجاجي تحطم فجرحت شظاياه وجه لينين. لكن الجروح لم تكن عميقة وتسنى لاحقا إعادة الوجه إلى حالته الأساسية دون عناء كبير. وقد اتخذت الإجراءات اللازمة لمنع حصول ما حصل مستقبلا: فوضع جسم لينين في ناووس جديد لا تنفذ إليه عبر الغطاء الشفاف لا المطارق ولا الرصاصات ولا القنابل اليدوية. في نهاية العام 1991 توقف تمويل الدولة لكل الأعمال المتصلة بالحفاظ على جسم لينين. ومع ذلك لا يزال إلى الآن يتم القيام بالإجراءات اللازمة للحفاظ عليه ولكن بفضل أموال لا تأتي من الدولة، بل من صناديق ومؤسسات شتى. زد على ذلك أن مركز تدريس طرائق وتقنيات الطب الأحيائي تعلم هو نفسه كيف يحصل على المال اللازم بفضل الطرائق الفريدة من نوعها التي ابتكرها في مجال التحنيط والتي لا مثيل لها في العالم حتى اليوم. ولذا يدعى موظفو هذا المركز بين الفينة والفينة إلى بلدان مختلفة للقيام بأعمال خاصة للغاية في هذا المجال. وكانت أول دعوة من هذا القبيل جاءت في العام 1925 من الصين عندما توفي هناك الثوري صون يات صنغ. فقد طلب الصينيون من موسكو أن تساعدهم على تحنيط جثته. غير أن ستالين رفض بحجة أن الحفاظ على جسد لينين يجب أن يكون فريدا من نوعه. وفي عام 1949 توفي القائد البلغاري غيورغي ديميتروف فوافقت القيادة السوفييتية على مساعدة البلغار على تخليد جسده. وبعد مضي ثلاث سنوات بدأ المركز تحنيط جثة المارشال المنغولي تشويبولسان. وبعد سنة أيضا توفي الزعيم التشيكوسلوفاكي كليمنت غوتفالد الذي كان قبيل هذا يشارك في مراسم دفن ستالين فأصيب بنوبة برد توفي إثرها هو نفسه بعد مضي بضعة أيام. أما بالنسبة إلى القائد الفيتنامي هوشي منه الذي توفي عام 1969 فقد تم التوصل وهو بعد حي يرزق إلى اتفاق مع موسكو على تحنيطه. وعندما توفي ماو تسي تونغ في الصين عام 1976 لم يرد الصينيون هذه المرة أن يطلبوا مساعدة الكرملين فحنطوه بقواهم الخاصة، وإن كان هذا تم بمعونة حافظي جسم هو شي منه الفيتناميين الذين كانوا تلقوا العلم في الاتحاد السوفييتي. وطلبت مساعدة المركز لاحقا أنغولا وغايانا وكوريا الشمالية حيث أقيمت أيضا للقادة المتوفين الأضرحة. ويجب القول بالمناسبة انه بعد أحداث نهاية الثمانينات العاصفة في بلدان أوروبا الشرقية تمت إزالة أضرحة الحكام السابقين في هذه البلدان بينما هي لا تزال في مناطق أخرى مفتوحة للزوار. وما دام الأمر كذلك فإن اختصاصيي المركز يدعون إلى هناك بين الحين والحين. ويقول نائب مدير المركز البروفسور يوري دنيسوف نيكولسكي إن كل الطرائق المستخدمة في موسكو لتحنيط الجسم وكل الأجهزة التقنية التي تتحكم في حرارة الجو هي منجزات فريدة من نوعها للعلم الروسي بالذات إذ لا مثيل لهذا لا في أوروبا ولا في الولاياتالمتحدة. ولهذا لا تزال جثة لينين في حالة ممتازة ويمكن أن تبقى في الضريح إذا ما أوليت الاهتمام اللازم أقله مائة سنة أخرى. جدير بالذكر ان تحنيط الجثث ليس بالنسبة إلى مركز تدريس طرائق وتقنيات الطب الأحيائي سوى جزء ضئيل جدا من نشاطه المتعدد الأوجه. فالموضوع الرئيس الذي ينكب عليه حاليا العلماء في هذا المركز حاليا هو دراسة الأعشاب الطبية ومختلف المواد اللائمة للجروح والبثور. كما أن طرائق التحنيط المستخدمة يمكن ان تستخدم أيضا في مجالات علمية أخرى. فلبضع سنوات خلت مثلا عثر علماء الآثار في ألطاي على مومياءتين فقرروا حفظهما في غرف مثلجة. ولكنهم عندما أخرجوهما من هناك لاحقا تبين أن الغطاء الجلدي عليها اسودّ وباتت رسوم التاتو عليهما غير بينة. ولكن اختصاصيي المركز المذكور استطاعوا أن يعيدوا هذا وذاك إلى حالتهما الأولية. ومهما يكن من أمر فإن البروفسور يوري روماكوف لا يزال حتى الآن يعتبر تجربة تحنيط جثة لينين تجربة فريدة من نوعها. هذا علما بأن الجراح الروسي العظيم نيقولاي بيروغوف قد حنطه ابنه في مدينة فينيتسا قبل ذلك بكثير، في عام 1881. والفرق هنا يكمن، كما يقول هذا العالم، في أن مراقبة حالة جثة بيروغوف لم تكن بالصرامة التي روقبت بها حالة جثة لينين، ولهذا السبب أخذت تتحلل. ولذا ترتب على اختصاصيي مركز تدريس طرائق وتقنيات الطب الأحيائي في العام 1978 أن يذهبوا إلى فينيتسا حيث رأوا لوحة محزنة. فجسم بيروغوف غطاه عفن أخضر وزال عن رأسه ووجهه (كان ذلك الجراح ملتحيا وذا شوارب) الشعر كليا. وبدأ تحوّل في كل الأنسجة. لابد أن نأخذ في الحسبان مع ذلك، يقول روماكوف، ان التحول ربما كان أشد لو كان بيروغوف سميناً. إلا أنه مات من سرطان الفم ولم يأكل شيئا تقريبا خلال بضعة الأشهر المتبقية من حياته ولذا هزل هزالا شديدا. ولابد من القول بالمناسبة أن المرجع الأعلى في الكنيسة الأرثوذكسية الروسية الذي تقدمت إليه بالطلب أرملة المتوفي هو الذي سمح بعدم مواراته الثرى ودفنه في تابوت مكشوف. وقد صلي على نفس بيروغوف وروعيت كل المراسم والطقوس المسيحية. وليس ما تمكن إدانته إن في واقع عدم مواراة جسم بيروغوف الثرى أو في أن بإمكان الزائرين أن يروه بحرية. وقد مكن تدخل مركز تدريس طرائق وتقنيات الطب الأحيائي في الوقت المناسب في العام 1978 من إكساب جثة بيروغوف الشكل "اللائق . ولكن هاهي الآن بدأت ترد، للأسف، من فينيتسا بأوكرانيا مجددا أنباء مقلقة. ويبدو أن الأموال التي تخصصها السلطات الروسية سنويا للاعتناء برفات هذا الجراح لا تستخدم دائما كما يجب وحيث يجب. وليس عبثا ان طرحت موسكو غير مرة أمام الحكومة الأوكرانية مسألة تسليم روسيا جثة بيروغوف، ولكنها كانت تلقى الصد والرفض في كل مرة. واخيرا قررت إدارة محافظة فينيتسا تخصيص مبلغ 20 ألف دولار في عام 2003 للمحافظة على ضريح بيروغوف. ولكن هيهات أن يستطيع هذا المبلغ المتواضع جدا أن يغير الوضع تغييرا جذريا نحو الأفضل. وتبقى جثة لينين نموذجا فريدا لقدرة العلماء الروس على التحنيط.