يمه يمه أعرف.. ويعرف إخواني، أن الدنيا فانية والآخرة باقية. النفس تبكي على الدنيا وقد علمت ..... أن السعادة فيها ترك ما فيها لا دار للمرء بعد الموت يسكنها ..... الا التي كان قبل الموت بانيها فان بناها بخير طاب مسكنه ..... وان بناها بشر خاب بانيها هي ليست أمي: أي ليل مضى، وأي دمع جرى في وداعكِ، بكتكِ الخبر بأسرها وجيرانها، في أول ليلة في القبر وتحت التراب.. يمه وماذا أقول. رباه، أعرف ظلمة القبر ووحشته، اللهم أنر قبرها، وآنس وحشتها، وأنت تعلم كم أنارت من درب الخير في طاعتك، وكم اسعدت الأحباب بأقوالها وأعمالها. كم اطعمت، وكم سقت، وكم تصدقت، وكم كفكفت دموع اليتامى والمساكين! .. تلطف يا قبر في ضمتك، فإن جسدها الطاهر لا يتحمل ظلمتك، تلطف فإنها كانت من عباد الله الصالحين.. أعرف يا قبر ان الموت لا يستأذن، يقصم الظهور، ويخرج الناس من الدور، وينزلهم من القصور، ويسكنهم القبور بلا استئذان.. رباه، القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار.. رباه، دعوناك. رباه، ناجيناك. رباه، ببابك متضرعين، (اجعل قبرها روضة من رياض الجنة) في ساعة الاستجابة بعد العصر من يوم الجمعة.. كان الوداع الأخير ..كما يقولون أمي نبع الحنان. أمي كانت مرتع الأمان. امي كانت سلوة الاحزان.. القلب يتقطع، وأنا أهيم بين حروفي وكلماتي، وبين سطور ذكرياتي. ماذا بقى لنا في الحياة بعد امي؟ ناجيت أمي في الخيال، بربكِ يمه، قولي لي: هل أنت أمي، أمْ ام الجميع؟ قال طيفها وابتسامتها ووجهها الوضاح: بعد هذا العمر تسأل؟ انا أمك وأم اليتامى وأم الجميع وابنة القرآن.. هي ليست امي: رحمها الله - كانت محل الثقة والصدق والأمانة عند أهل الفريج، حيث كانت أماناتهم ووصاياهم لديها. حريصة على إيصال الأمانة وتنفيذ الوصية. عاشت عزيزة النفس لا ترضى بالهوان والظلم والخطأ. هي ليست أمي: أحبت النشاط ودعمت جميع أبنائها وإخوانها في بدايات الرياضة والكشافة في مدينة الخبر. أحبها قدماء الكشافة، حيث كانت ترسل الأكلات الشعبية لرحلاتهم ومعسكراتهم. عاشت تفوّق القادسية ودعمت وشجعت الأنشطة الرياضية والثقافية والاجتماعية ومهرجاناتها الرمضانية، عند مشاركتي في الجامبو ري العالمي للكشافة في النرويج قبل 38 سنة. أرسلت (ثوب النشل المطرز لتبهر زوار المعسكر)، أحبها زملاؤنا أيام الدراسة الجامعية. كانت تقوم قبل الفجر وتجهز كبسة الهامور في قدر كبير، وترسله معنا إلى الرياض)، أرسلت (الخنفروش) وأكلاتها الشعبية إلى أمريكا وألمانيا واليابان. كانت حاضرة في جميع مشاركات أبنائها وإخوانها وأحفادها. كانت الشجرة المثمرة تعصفها أشد الرياح، فتزداد قوة وتماسكاً لتسقط الثمر ويستظل بظلها كل محتاج. هي ليست أمي: عاشت تطور الخبر منذ اللحظات الأولى، واكتشاف البترول ونزول بعثة الاكتشاف في فرضة الخبر. وكانت تحتفظ بذكرياتها بأدق التفاصيل. رغم تجاوزها الثمانين، وقد أنهكها المرض، فتجلس في اللقاء الأسبوعي تروي الذكريات والأحداث حاضرة الذهن. في حرب الخليج عندما اشتعلت الحرب، وسقطت صواريخ صدام على الظهرانوالخبر والمطار. طلبتُ منها مغادرة الخبر هي والأبناء مثل الكثير من العوائل، ورفضت ذلك بشدة وغضب، وقالت: لا أغادر بيتي. نموت أو نعيش سوياً وأنا مؤمنة بالله. وكان لها الدور الكبير أيضاً بالتعريف بتراث المملكة للصحفيات والمجندات اللاتي شاركن في الحرب، وكانت تستضيفهن في بيتها، وتعرض لهن الحلي والذهب والملبوسات الشعبية وتكرمهن. كان لها مجلس مفتوح في رمضان كبير وسفرة ممدودة، يقصدها القاصي والداني. كانت صدقاتها وزكاة أهل الخير تتوزع عن طريقها. تحرص كل الحرص على الإشراف بنفسها على التوزيع، رغم إعاقتها في آخر أيامها؛ حرصاً منها على إيصالها بنفسها، والتواصل مع جيرانها وأصدقائها القدامى. كانت تطبخ غداء العيد بنفسها على الحطب، وكانت تروي ذكرياتها ومعاناتها لبناتها وحفيداتها. على مدار اكثر من 20 سنة، كانت تحرص على قضاء العشرة الأواخر من رمضان. هي وجمع أبنائها وبناتها وأحفادها، كان لها ايضاً سفرة كبيرة في سطح الحرم للأفطار، وعندما أنهكها المرض استمرت بإرسال الصدقات لإفطار الصائمين للعم هارون في رمضان والحج. هي ليست أمي : بنات العائلة من تشرفن بحمل اسمها، يقلن: سنظل نذكرها، ونقتدي بصفاتها وأعمالها، ونسير على خطاها .كانت هي الام والجدة الحنون، وكتبت حفيدتها ابنة 9 سنوات شريفة بنت محمد: ((في حياتنا الطويلة عاشت معنا أمنا وصديقتنا الدائمة. عاشت على الحق وعلى العدل ومع كبر سنها بقيت لها صلة مع الله. لم تؤخر صلاتها ولم تقصر معنا ولم تتوقف عن ذكر الله. وبإذن الله لها الفوز بالجنة والفردوس الأعلى. واسمها سوف يظل ذكرى مهما مرت السنين، واحفادنا سوف يعلمون قصتنا معها وعن حياتها معنا. وعن قوتها في الصمود لأجل الله وسوف يكون لها الفوز بالجنة، وسوف تتذكرنا في الجنة بإذن الله)). هي ليست أمي: رحمها الله - حرصت كل الحرص وبذلت كل الجهد في تعليم أبنائها وبناتها وأحفادها، إلى أن أهلتّهم بأكبر الشهادات العلمية والتخصصية. وكانت تشاركهم أفراحهم وتقيم الحفلات والتكريم لهم على طريقتها الشعبية حتى تقلدوا أكبر المناصب بعصاميتها. عاشت أفراحهم وتراحمهم، راضية بقضاء الله وقدره، وجهزت كفنها منذ 30 سنة. مستعدة لاستقبال آخرتها، لم تغرها الدنيا بزخرفها. عاشت متواضعة في أحضان القرآن والأعمال الخيرية.. أمي يا غاليتي أنا واخواني وأخواتي على عهدكِ سائرين، وعلى وعدكِ وافين، وعلى دروب الخير قائمين. يتقطع القلب والدمع ينهمر عليها فهي أمي. ام الأمهات ولا يمكن أن أوفي حقها بكلمات أو عبارات، فهي تستحق أكثر من مجلدات. في آخر اللحظات اجتمعنا الإخوان والاخوات، نطقت الشهادة بنظرة وداعية، وكأنها تقول: أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والى اللقاء في جنات النعيم .. رسمت على محياها تلك الابتسامة، وذلك النور المشع، وكأنها عروس في خدرها يوم زفافها بجمالها .. رحمها الله رحمةً واسعة وأسكنها فسيح جناته وانزلها منازل الشهداء والصديقين .. وألهمنا الصبر والسلوان، وانا لله وإنا إليه راجعون. إلى جنات الخلد يا جنة الدنيا يا ام جاسم. رحم الله موتنا وموتاكم وموتى المسلمين. [email protected]