في مقال سابق تطرقنا لأزمة المثقف العربي والمشاكل التي يعاني منها والمضايقات المختلفة التي يتعرض لها. الكلام عن اقصاء وتهميش المثقف العربي يثير جدلاً اخراً لا يقل اهمية عن ازمة المثقف وهو اشكالية البحث العلمي. اشكالية البحث العلمي اذاً تمثل مجالاً مهماً للعديد من التساؤلات ومن الاشكاليات الرئيسية التي تتعلق بالبحث العلمي في الوطن العربي وموقعه في خريطة اهتمامات السلطة والمسئولين والمشرفين على التعليم العالي والبحث العلمي. ومن اهم التساؤلات التي تثار في هذا السياق: علاقة السلطة في الوطن العربي بالبحث العلمي وعلاقة البحث العلمي بصناعة القرار، وعلاقة الدول العربية بالادمغة المهاجرة والكفاءات العلمية العربية الموجودة في مختلف انحاء العالم وماذا فعلت الانظمة العربية لاستقطاب هذه الكفاءات او على الاقل الاستفادة منها، ولماذا تنجح وتبدع الكفاءات العربية في الخارج وتهمّش ولاتصل الى مستوى يذكر في بلادها، وبالعكس تصل الى اعلى المستويات في اوروبا واميركا؟ ما هي الميزانية المخصصة للبحث العلمي في الوطن العربي؟ وما هي مساهمة الوطن العربي في الانتاج العلمي والمعرفي العالمي؟ واقع البحث العلمي اذا بدأنا باشكالية البحث العلمي في الوطن العربي نجد ان الوضعية مؤسفة للغاية وان الميزانية التي تخصص للبحث العلمي في معظم الدول العربية لاتكاد تذكر، واذا كانت الميزانية المخصصة للبحث العلمي في السويد تساوي 3.02 من الناتج القومي و 2.82 في اليابان و 2.68 في سويسرا وكوريا الجنوبية و 2.47 في الولاياتالمتحدة الاميركية و 2.34 في اليابان و 2.68 في سويسراوكوريا الجنوبية و 2.47 في الولاياتالمتحدة الاميركية و 2.34 في فرنسا و 2.31 في اسرائيل، فنجد ان اول دولة عربية تستثمر في البحث العلمي هي الكويت بمقدار 0.3% من ناتجها القومي وهي بعيدة كل البعد عن المقاييس العالمية، وما بالك بباقي الدول العربية. هذه الارقام تعني الكثير وتعني على الخصوص ان البحث العلمي في وطننا العربي مازال بعيداً عن اهتمامات السلطة وصانع القرار، حيث ان هذا الاخير مع الاسف الشديد لا يرجع ولا يعتمد على النتائج والدراسات العلمية في صناعة قراراته. واذا نظرنا الى مساهمة مختلف الدول وشعوب العالم في الانتاج العلمي العالمي نرى ان الولاياتالمتحدة الاميركية تسهم ب 35.82% وتنفق ما يزيد على 150 مليار دولار سنوياً على البحث العلمي ونجد دولة مثل المملكة المتحدة تسهم ب 9.24% واليابان ب 8.67% وألمانيا ب 7.42% وفرنسا ب 5.88% واسرائيل ب 1.17% اما عالمنا العربي فلا وجود له في مثل هذه الاحصائيات والاسهامات. واذا اردنا ان نحلل ميكانيزمات وآليات البحث العلمي في الوطن العربي نجدها منعدمة تماماً انطلاقاً من مبدأ ان البحث العلمي يوفّر المعلومة لصاحب القرار حتى يطوّر من الاداء ومن المردودية ومن الانتاجية، وفي عالمنا العربي مع الاسف الشديد نجد ان مؤسسات التعليم العالي ومراكز البحوث عبارة عن مؤسسات استهلاكية تستهلك العلم والمعرفة التي ينتجها الاخرون لنا، والى حد الان لم نصل بعد الى مرحلة انتاج العلم والمعرفة. فجامعاتنا تحاول ان تؤقلم نظريات الغرب في محيطها، وهذا في نهاية الامر تحصيل حاصل لأن المجتمع بمختلف قطاعاته وشرائحه مجتمع استهلاكي (مواد غذائية، مواد مصنعة، كماليات، منتجات اعلامية وثقافية، كماليات الخ). ومن هنا نجد ان الميكانيزم الذي يربط البحث العلمي بالمجتمع ينعدم تماماً حيث ان المجتمع الذي لا ينتج مواده الاساسية لا يستطيع ان ينتج العلم والمعرفة وبذلك فإنه لا يتعب نفسه في البحث والاستقصاء والاستثمار في انتاج المعرفة. الاشكالية الاخرى المطروحة هي ان صاحب القرار في الوطن العربي لا يعتمد على البحث العلمي ولا الدراسات ولا البيانات والمعطيات العلمية لاتخاذ قراراته، وخير دليل على ذلك انعدام مراكز سبر الآراء في الوطن العربي، وهكذا تصبح العلاقة الارتباطية بين البحث العلمي والرشادة السياسية والاقتصادية منعدمة تماماً. وهذا في اخر المطاف يقضي على شيء اسمه البحث العلمي وهذا ما ادى في حقيقة الامر الى ضعف الميزانية المخصصة للبحث العلمي في الوطن العربي، سواء على مستوى الجامعات او مراكز البحث العلمي او المؤسسات الصناعية والتجارية وغيرها. مستلزمات البحث العلمي قد يسأل سائل ويقول في المقام الأول: هل مستلزمات البحث العلمي متوفرة في وطننا العربي؟ هل التمويل متوفر؟ هل المكتبات والارشيف والاحصائيات متوفرة؟ هل وسائل ومصادر المعرفة متوفرة؟ هل المناخ العلمي متوفر؟ هل ثقافة البحث العلمي متوفرة؟ هل السلطة مقتنعة بالبحث العلمي؟ وهل السلطة في الوطن العربي تشجع البحث العلمي وتستعمله في أداء عملها؟ هذه اسئلة لابد من طرحها اذا اردنا ان نتكلم عن البحث العلمي في الوطن العربي. وبداية نقول ان المستلزمات الاساسية للبحث العلمي تنعدم تماماً واذا وجدنا ملايين العناوين في مختلف مكتبات الجامعات ومراكز البحث العلمي في الولاياتالمتحدةالأمريكية (مكتبة جامعة هارفارد فيها اكثر من 19 مليون عنوان) والدول الغربية، ففي وطننا العربي مصادر العلم والمعرفة تعد بالآلاف!! اما عن مناخ البحث العلمي وثقافته فإن القيام ببحث ميداني حول مشكلة اجتماعية معينة قد يؤدي الى متاعب ومصاعب لا تحمد عقباها وقد يجعل المبحوث يتساءل حول هدف البحث وخلفياته.. الخ وقد يخضع الباحث للاستجواب والمساءلة ولمضايقات لا اول لها ولا اخر. ونتساءل هنا: لماذا هجرت الكفاءات العربية بلدانها في المقام الأول؟ وما هي علاقة الباحث بالسلطة وماهي مكانة الباحث في الوطن العربي؟ نلاحظ هنا ان الكفاءات التي هاجرت من اوطانها لم تهاجر حباً في الدول الغربية او المتقدمة او بحثاً عن المجد والمال، وانما الهجرة فرضتها الظروف الصعبة في الوطن الام وكذلك انعدام مستلزمات البحث العلمي والعمل الاكاديمي وفق الشروط والمقاييس العالمية. فمعظم الكفاءات العربية المهاجرة وجدت نفسهامجبرة على فعل ذلك لعدة اعتبارات من اهمها الاقصاء والتهميش وانعدام مناخ البحث العلمي. وهكذا ومع الاسف الشديد تخسر الدول العربية مليارات الدولارات من جراء هجرة الادمغة والكفاءات العربية الى انحاء مختلفة من العالم وتخسر بذلك ترشيد صناعة القرار. وكنتيجة لهذا النزيف المنظم وعدم الاهتمام الجدي بالبحث العلمي تعاني السلطة العربية من مشاكل عديدة وفي جميع المجالات نظراً لعدم توفرها على الاحصائيات والبيانات والمعطيات الصحيحة والدقيقة عن مختلف المشاكل التي يعاني منها المجتمع.. فالبحث العلمي في الوطن العربي يعاني من البيروقراطية وعدم المؤسسية وانعدام التنظيم المحكم الذي يركز على النتائج اكثر من الشكليات والوسائل والانشطة. فإذا اخذنا المؤتمرات العلمية في الوطن العربي كمثال نجد معظمها فلكلوري يركز على البهرجة الاعلامية وعلى الرسميات والشكليات اكثر من النتائج وتحقيق الاهداف التي نظم المؤتمر من اجل تحقيقها. ما مصير امة تستهلك ولاتنتج؟ وما مصير امة يكاد ينعدم فيها انتاج العلم والمعرفة في المؤسسات التي صممت وانشئت من اجل ذلك؟ فالأمر اذاً يتطلب وقفة جادة ناقدة وموضوعية ازاء قضية تعتبر استراتيجية ومصيرية في نظام عالمي تعود الكلمة فيه لمن يملك المعلومة والعلم والمعرفة. البيان الاماراتيه