إعلان الرئيس الأمريكي باراك أوباما الأربعاء قبل الماضي عن سحب القوات الأمريكية من أفغانستان على مراحل ممتدة حتى نهاية عام 2014 له أكثر من دلالة ويمكن قراءته من أكثر من زاوية، لكن في كل الأحوال سيخلف أثرا كبيرا على أوباما وعلى الشعب الأمريكي وعلى العالم كله. بالتأكيد سيحقق أوباما مكسبا سياسيا شخصيا يساعده في الظفر بالانتخابات الرئاسية القادمة في ظل تزايد دعوات الأمريكيين بالانسحاب، وبالتأكيد أيضا سيخلف تكتيك الانسحاب معادلات جديدة في صراع الولاياتالمتحدة والعالم ضد الإرهاب وتنظيم القاعدة تحديدا. سيحدث كل ذلك، ولكن الأهم في ظل المشهد الحالي ومعالمه التي تحددها أفغانستان الآن والعراق قبلها أن نطرح تساؤلا مهما يتعلق بإرادة واشنطن في الانخراط مجددا في صراعات في مناطق أخرى بالعالم بعدما وجد المسؤولون الأمريكيون أنفسهم في ورطة شديدة قادهم توجه فكرى متعصب وعقيدة هجومية إليها، ففي فترة من الفترات وخلال سنوات قليلة سابقة كان الاعتقاد بأن العراق وأفغانستان لن يرهقا القطب الأوحد في العالم كثيرا، وان النصر بتحقيق كل الأهداف السياسية والعسكرية آت لا محالة وان إدراكه مسألة وقت لا أكثر، لكن إدارة الرئيس السابق بوش الابن على وجه التحديد تناست أن عليها أن تدفع ثمنا فادحا يتزايد في ضخامته كلما مر الوقت، وتناست انه في هذا العالم كما يقول ميلتون فريدمان لا يوجد شيء اسمه وجبة غذاء مجانية. وبينما ينشغل المراقبون والمحللون السياسيون في قراءة مشهد الانسحاب وتحديد ما إذا كان يعني هزيمة كاملة أو تغيرا تكتيكيا في تعامل الولاياتالمتحدة مع حربها ضد الإرهاب، سيكون من الأنسب أن يتم التعامل مع الموقف في إطار صورة اكبر وأوضح وفق إطار حددته في الواقع هجمات الحادي عشر من سبتمبر الدامية في نيويوركوواشنطن عام 2001. وتطور الأحداث وتسارع الأفكار خلال هذه السنوات العشر، من خلال إدارتين أمريكيتين تختلفان نسبيا في الرؤى السياسية ووسائل استخدام القوة بكل محدداتها، يمكن أن يحدد إلى حد كبير المشهد الذي يمكن أن يكون عليه المستقبل القريب. في حقبة الرئيس بوش الابن، كانت خصائص السياسة الخارجية يحدد معالمها مبدأ القوة المفرطة Hard Power، وصاحب ذلك مرحلة الاندفاع المحموم والمفعم بالغضب نحو الحرب، ثم مرحلة توجيه الرأي العام لإثبات جدوى وصلابة القوة الأمريكية في الحرب ثم مرحلة التورط. وعلى النقيض تماما، بدأ الرئيس أوباما فترة إدارته بمرحلة التورط وكان لا بد عليه أن يحدد كيف يمكن أن يخرج البلاد منه بأقل الخسائر، وربما كانت رؤيته في هذا الخصوص هي العامل الرئيس والأكثر حسما في نجاحه في الانتخابات الرئاسية، ثم تلت ذلك مرحلة توجيه الرأي العام وتهيئته لتقبل فكرة عدم جدوى الحرب بتكاليفها الباهظة في ظل وجود تكتيكات أخرى، وفى هذه المرحلة لم يكن قرار أوباما بإرسال قوات إضافية إلى أفغانستان بغرض توسيع دائرة العمليات والانخراط في صراعات جديدة بقدر ما كان لحماية الجنود الأمريكيين من هجمات طالبان التي زادت وتيرتها بشكل متصاعد، وها هو الآن يدخل المرحلة الثالثة وهى مرحلة الانسحاب. النقطة الثانية الجديرة بالاهتمام في ضوء المشهد الحالي تتعلق بقياس الشعبية، وخاصة بعد فترة وجيزة من اتخاذ القرارات، ففي حقبة الرئيس بوش الابن ارتفعت شعبية الرئيس وكذلك معدلات التأييد لقرار واشنطن بالحرب على أفغانستان ثم العراق، وأصبحت الآلة الحربية احدى وسائل النجاح السياسية المضمونة لبوش، ثم بدأ منحنى التأييد يهبط تدريجيا بسبب الكلفة العالية للحرب والخسائر البشرية المتزايدة في صفوف الجنود الأمريكيين، فضلا عن عدم قدرة الاقتصاد على النمو في ظل تلك الظروف المشحونة والمغلفة بالتوتر والمخاوف الأمنية. وفى أحدث استطلاع للرأي أوردته شبكة «سي ان ان» الإخبارية تبين أن أكثر من 70% من الأمريكيين قد باتوا يعارضون الآن الحرب في أفغانستان. ومثلما كان الاندفاع نحو الحرب سببًا في رفع شعبية الرئيس بوش، كان سحب القوات من ذات الحرب سببا في زيادة شعبية الرئيس أوباما، وهنا تكمن المفارقة، ولكنها بالطبع مفارقة لها دلالتها، وهى هنا تبين عدة أمور يتعين على المراقبين دراستها وتقييمها، ومنها قدرة القائد وصفاته الشخصية على توجيه بوصلة الرأي العام لدعم موقف معين، وشعور الناس بالخطر وما يستتبع ذلك من تغير في الفكر والسلوك وكذلك الدور المؤثر للإعلام بكل وسائله التقليدية منها والجديدة في تهيئة المناخ السياسي العام. ولهذا لا يمكن الإجابة على سؤال مثل: هل الشعب الأمريكي مع الحرب أم مع الانسحاب ولماذا يبدل مواقفه ويغير رأيه؟ دون الأخذ في الاعتبار الظروف المحيطة ومنها العناصر السابقة. النقطة الثالثة التي ينبغي على المحللين السياسيين التوقف عندها طويلا تتعلق بالإرادة السياسية للقطب الأوحد في العالم في المستقبل الذي يتبدل وتتغير ملامحه بسرعة فائقة. فمع انقشاع غبار الانهيار السريع لبرجي التجارة العالمي في نيويورك، تشكلت سحابة أخرى من الغضب والرغبة في الانتقام وغطت سماء الولاياتالمتحدة كلها، وبات واضحا أن الضغط الشعبي سيحرك إدارة الرئيس بوش نحو الحرب، وساعد اليمين الجديد كثيرا في هذه المهمة، وكان الصقور في إدارة الرئيس بوش الابن لهم قناعتهم بأن إرادة واشنطن ستجبر الآخرين بشكل أو بآخر على الانصياع وان ثمة عالما جديدا سيتشكل في النهاية فق محددات هذه الإرادة وتبعاتها، وبالتالي كان الأنسب للولايات المتحدة في ظل الظروف الأمنية التي كانت تعيشها هو استخدامها للقوة المفرطة كإحدى آليات الحفاظ على هذه الإرادة. الرئيس اوباما ومستشاروه يتعاملون مع القضايا المتأزمة للسياسة الخارجية بمنظور معاكس، فالتشكل والتبدل السريع الحاصل الآن في مسرح السياسة الدولية يحدد، وفق قناعاتهم، إرادة واشنطن في مرحلة ما بعد الحرب من دون التفريط في القيم الأمريكية، وبالتالي سيكون الأنسب للسياسة الخارجية في المرحلة الحالية هو خيار القوة الناعمة، كما تصوره جوزيف ناي عند تقديمه للمصطلح في التسعينيات من القرن الماضي، للحفاظ على هذه الإرادة وصيانة مكتسباتها. وفى فترة أوباما الثانية، إذا قدر له النجاح في الانتخابات القادمة، سيكون لزاما على الرجل تسويق إرادة واشنطنالجديدة في العالم بعدم التورط في صراعات غير مجدية، وهى مهمة ليست بالسهلة على الإطلاق، وخاصة مع اعتبار البعض من الأمريكيين بأن الإرادة الجديدة فرضها واقع مرير شابته انكسارات وهزائم في معارك لم تكن متكافئة على الإطلاق قياسا على القدرات العسكرية الهائلة التي لا تملك أي دولة في العالم نظيرًا لها. سيكون على أوباما مواجهة غضب هؤلاء ومحاولاتهم استقطاب المزيد من المؤيدين في المستقبل القريب، ولكن الأهم من هذا وذاك هو قدرة أوباما في المرحلة المقبلة على استعادة الترابط بين الحكم والاقتصاد، فهذا الترابط اتضح انه قد تم فقدانه في مرحلة ما غلبت خلالها النزعة الوطنية والكبرياء على توجهات الأمريكيين في التعامل مع القضايا الملحة، ولم ينتبه الأمريكيون لذلك إلا متأخرا ومع إحساسهم بالخطر على مستقبلهم الاقتصادي وأوضاعهم المعيشية، وحتى مع دعوات التهدئة والانسحاب بات واضحا أن على أوباما ملاحظات كثيرة قد تعترض طريقه في هذه الفترة ومنها عدم قدرته على الوصول إلى معدلات مرضية لخلق المزيد من الوظائف فضلا عن ارتفاع التضخم وزيادة الديون وأزمة الضرائب، وهى أمور كان الناخبون الأمريكيون يضعونها نصب أعينهم عندما صوتوا بكثافة لباراك أوباما. والتفاوض بالتأكيد سيكون إحدى أوراق أوباما في الفترة المقبلة وهو يحمل حقيبة القوة الناعمة، والأمريكيون يدركون الآن أكثر من أي وقت مضى بأن عليهم النزول بسقف تطلعاتهم في أفغانستان إلى مستوى مرضٍ ومعقول بعيدا عن المبالغات التي ساقها الصقور في فترة من الفترات، ولم يعد خافيا على احد أن الجنرالات الأمريكيين يسعون بشكل متواصل الآن لإنجاز مفاوضات سلام مع طالبان، ومنذ ما يزيد على أسبوع اعترف وزير الدفاع الأمريكي روبرت جيتس بأن بلاده بدأت محادثات تمهيدية مع طالبان، وان ثمة مفاوضات أسفرت عن عقد ثلاثة اجتماعات من الجانبين لهذا الغرض. وفى العراق هناك مداولات مستمرة لتقنين الوجود الأمريكي في البلاد بعد عام 2011 بشكل لا يورطه في صراعات جديدة مع المقاومة العراقية بأطيافها المختلفة. ستحتفظ حقيبة أوباما الجديدة في كل الأحوال بالأهداف الرئيسية التي انخرط الأمريكيون من اجلها في أفغانستان والعراق، فليس من المنطقي تصور تخلى واشنطن عن هذه الأهداف بعد أن كلفتها المواجهات في هذين البلدين ما يقرب من خمسة تريليونات دولار على أقل تقدير وحتى هذه اللحظة، فالحرب على العراق، كما أعلن جوزيف شتيغليتس مستشار الرئيس الأسبق بيل كلينتون قد كلفت الولاياتالمتحدة 3 تريليونات دولار، وستصل تكلفة الحرب على أفغانستان نحو 2 تريليون دولار، في حين أن المصاريف الدفاعية في داخل الولاياتالمتحدة نفسها في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر وصل إلى تريليون دولار، ولا تشمل التكاليف غير المباشرة وتباطؤ الاقتصاد وارتفاع أسعار النفط ومصروفات الترميم وغيرها، وبالتالي فالمتوقع بعد أن دفعت واشنطن هذه الفاتورة الباهظة أن تحمل ملفات حقيبة أوباما بعض التبديلات والتغيرات في التكتيك ومرونة التحرك من دون المساس بالاستراتيجية العامة المتمثلة في مكافحة الإرهاب وملاحقة الإرهابيين وقادتهم. استعادة الثقة بين الشعب والجيش الأمر الآخر الذي سيكون على اوباما التعامل معه بعيدا عن الاقتصاد والخسائر وفواتير الحرب هو استعادة الثقة التي غابت بين الشعب الأمريكي والجيش على فترات سابقة ممتدة في الداخل، وفى الخارج استعادة الثقة في دور الولاياتالمتحدة كطرف مشارك للمجتمع الدولي وتصحيح الصورة والسمعة السيئة التي لاصقت تصرفات الأمريكيين قبل وأثناء انخراطهم في حربي أفغانستان والعراق. ففي الداخل الأمريكي، لم تمض شهور قليلة بعد إعلان بوش الابن بداية العمليات العسكرية في العراق للإطاحة بنظام صدام حسين ونشر الديمقراطية في ذلك البلد العربي الذي كان «مفعما بالخوف» على حد قوله، حتى تبين للمراقبين السياسيين والمهتمين بالشؤون الدولية أن الانتصار العسكري السهل على قوات عراقية مهلهلة لم يكن كافيا على الإطلاق لإحكام السيطرة الكاملة على العراق وأن التخطيط لمرحلة ما بعد الحرب لم يكن يتماشى مع قدرات وإمكانات القطب الأوحد في العالم. اتسعت فجوة الثقة بين الأمريكيين والجيش بسبب التخبط في إعلان قادة الجيش عن استهدافهم للقدرات النووية العراقية وقطع صلة نظام صدام البعثي بتنظيم القاعدة ثم تبين عدم وجود أثر لأسلحة دمار شامل ولا صلة مباشرة للبعث بالقاعدة على النحو الذي تم إيهام الأمريكيين به. خسارة الحلفاء والأصدقاء خارجيًا فيعلم أوباما جيدا أن حربي أفغانستان والعراق قد ساعدت في إذكاء مشاعر العداء العالمية للولايات المتحدة بشكل أو بآخر. ويعلم أوباما أيضا أن محاولة فرض مفهوم الولاياتالمتحدة للخطر الأمني الإرهابي على حلفائها لم يكن مجديًا في كل مرة، وأن هذه المحاولة أدت في السابق إلى اختلاف في رؤية الأولويات والمصالح وأوجدت نوعا من التوتر والاحتكاك في العلاقات. ما ألحقته حرب أفغانستان ثم العراق من دمار لسمعة الولاياتالمتحدة حول العالم من الصعب أن تتم إزالته بسهولة وسرعة، وبالتالي كان لزاما على اوباما منذ وصوله إلى كرسي البيت الأبيض أن يتخذ جملة من الإجراءات الضرورية والانتقال من سياسات القلق وعدم الوضوح والارتباك وانعدام الثقة إلى سياسات تهدف إلى إعادة بناء جسور الثقة مع الآخرين. يقول الكاتب والمحلل السياسي الأمريكي روجر كوهين في مقال نشر له في انترناشيونال هيرالد تريبيون قبل تولي أوباما الحكم بأسابيع قليلة إن الرئيس بوش الابن ونائبه ديك تشيني لم يتمكنا من الخروج من دائرة أحداث الحادي عشر من سبتمبر التي أسرتهم وقيدتهم تماما، وأدى سلوك وقرارات الرجلين العنيفة والعدوانية على الآخرين إلى ابتعاد عدد كبير من الحلفاء والأصدقاء عن إدارتهما. وأصبح هذا الدرس من أهم الدروس التي يتوجب على المسؤولين الأمريكيين تعلمها في المستقبل. يضيف كوهين «.. أصبح من الضرورة تغيير لغة الخطاب الرئاسي بحيث يكون مضمونه العام معبرًا عن التعاون بدلًا من تلك اللغة الهجومية التي اعتادت عليها إدارة بوش والتي لم تسفر عن شيء إلا الخوف والفرقة وانعدام الثقة. وعلى الرغم من أن الحرب على الإرهاب قد حصنت أمريكا ضد المزيد من الهجمات الإرهابية عليها، إلا أنها ساعدت في الوقت نفسه على توحيد صفوف الإرهابيين العاقدين العزم على إلحاق الخراب والدمار بالحضارة الغربية بأسرها، كما دفعت أعدادًا أكبر من المسلمين إلى النظر إلى أمريكا باعتبارها عدوًا لهم ولدينهم». وفى النهاية وبعد تجميع القطع المتناثرة للعبة البازل المعروفة باتت الصورة في مشهد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان أكثر وضوحا بالنسبة للإدارة الأمريكية والعالم، حيث ستستمد واشنطن إرادتها وقناعتها في مرحلة ما بعد الانسحاب استنادا على عدة اعتبارات مهمة خلفها التورط في أفغانستان والعراق، أولها أن الرهان على المكاسب السياسية وتجاهل الوضع الاقتصادي أمر شديد الخطورة، فالناس يمكن لها أن تبدل في مواقفها السياسية وظهر ذلك في تأييد الهجوم ثم تأييد الانسحاب، ولكنها في كل الأحوال لا تقبل أبدا بالمساس بأوضاعها الاقتصادية والمعيشية أو زيادة الضرائب دون ناتج فعلي، ولعل اوباما قد أدرك مؤخرا هذا الأمر وربط قرارات سياسية مهمة مثل الانسحاب من أفغانستان بالرغبة في «بناء الداخل». أما ثاني الاعتبارات فان انخراط إدارة الرئيس اوباما في صراعات مسلحة قادمة لن يكون متسرعا بل ستحدده في الغالب إرادة سياسية تنأى عن الصراعات بالشكل الذي تقرره القوة المفرطة، ولكنها في كل الأحوال لن تتخلى عن استراتيجيتها العامة حتى بعد تحقيق انتصارات مهمة مثل القضاء على بن لادن. ستكون أدوات السياسة الخارجية الناعمة في التفاوض والمشاركة والتأثير المتدرج الأكثر تواجدًا في المرحلة المقبلة، وربما يشجع ذلك بعض البلدان مثل إيران على حل مشكلاتها مع الولاياتالمتحدة بصورة أخرى تبتعد عن تصلب الرأي والعناد والتلويح باستخدام القوة العسكرية. والاعتبار الثالث هو القناعة التي أدركها المؤولون الأمريكيون بأن عليهم التعامل مع التغيرات والتحولات الجديدة في العالم بالشكل الذي يوائم ويناسب وينسجم مع طبيعة هذا التغير ووتيرته، فها هي الصين تستنهض قدراتها بشكل متنام يخولها للعب دور أكبر سياسيا واقتصاديا، وتتلمس خطاها الهند، وها هي الدول العربية تتحول تدريجيا نحو أنظمة حكم ديمقراطية في ربيع عربي غير مسبوق، وها هي تركيا بإصلاحاتها الاقتصادية المتسارعة ينبئ معدل نموها المرتفع الذي جاوز العشرة بالمائة عام 2010 أن تصبح واحدة من اكبر الأسواق الاقتصادية في العالم في غضون سنوات قليلة فضلا عن اتساع دورها السياسي الإقليمي بشكل ملحوظ، وها هي أوروبا تتفاعل أكثر مع ترابطها ووحدتها اقتصاديا وسياسيا، وأمريكا اللاتينية التي تعدى تأثيرها السياسي إلى حدود الشرق الأوسط وأفريقيا والأمثلة كثيرة. وتشكل الملامح الجديدة لخريطة العلاقات الدولية ستقود واشنطن إلى إحداث تغير نوعى في علاقاتها الخارجية ليس فقط لتحسين صورتها، بل أيضا لان التجارب أثبتت أن الاستئثار بالقرار دون المشاركة والتعاون في ظل هذا العالم المتغير ينقلب في النهاية ليحدث ضررا بالغا على الداخل الأمريكي ومصلحته في الأساس. لم تكن حروب الولاياتالمتحدة في الواقع وجبة غذاء مجانية، لكنها تظل في النهاية درسا بليغا سيتعلم منه الأمريكيون والعالم الكثير في المستقبل. ردود الأفعال: تباين في الداخل وتأييد من الخارج لاقى قرار الانسحاب ردود أفعال متباينة داخل الولاياتالمتحدة، حيث استحسن البعض هذا القرار، بل وهناك مَن رأى أن الانسحاب لابد أن يكون أسرع ممّا هو مخطط له، والبعض الآخر لم يرقْ له القرار، مؤكدين أن الانسحاب التدريجي يمكن أن يضر بالمصالح الأمريكية في الخارج. وأبدت قيادة الجيش الأمريكي ردة فعل سلبية لقرار أوباما، حيث صرح عدد من قادة الجيش أن الرئيس أوباما تجاهل نصائحهم بالقيام بانسحاب أقل حجمًا من أفغانستان، محذّرين من أن قراره له خطورة على عمل القوات العسكرية. وأكد الجنرال ديفيد بترايوس والأدميرال مايك مولن رئيس أركان الجيوش الأمريكية أن خطة أوباما لسحب 33 ألف جندي حتى نهاية الصيف المقبل «أوسع» ممّا أوصيا به، فيما قال رئيس الأركان الأمريكي الأدميرال مايك مولن أمام لجنة مشكلة من الكونجرس بأن قرارات الرئيس متحمسة أكثر من المطلوب، وتحمل خطورة أكثر من تلك التي كنت مستعدًا لقبولها في البداية، موضحًا أن المسار الأكثر أمانًا يتطلب المزيد من القوة والمزيد من الوقت، لكن فقط الرئيس في النهاية هو الذي يستطيع واقعيًّا تحديد مستوى مقبول من المخاطرة التي يجب أن نتحملها. دوليًَّا، أيدت فرنسا وبريطانيا وألمانيا وحلف الناتو قرار الانسحاب. وأعلن الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي أن فرنسا ستسحب مئات من جنودها من أفغانستان بدءًا من الآن حتى نهاية صيف 2012، وذلك مجاراة لإعلان الولاياتالمتحدة سحب جزء من قواتها هناك في هذه الفترة. كما أعلنت ألمانيا أنها ستباشر سحبا تدريجيًّا لقواتها من أفغانستان. وبطريقة محايدة وإيجابية أعرب رئيس الوزراء البريطاني ديفد كاميرون عن «اتفاقه التام» مع أوباما على إبقاء «ضغط متواصل» على المسلحين الأفغان رغم تقليص عدد القوات. وأيضًا الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (الناتو) أندرس فوغ راسموسن صرح بأن الانسحاب الجزئي للقوات الأمريكية من أفغانستان هو «نتيجة التقدم» الذي تحقق على الأرض ضد المسلحين، موضحًا أن طالبان تحت الضغط وقوات الأمن الأفغانية تزيد من قوتها يوميًّا وسيكون بإمكانها تسلم الأمن من القوات الدولية في 2014. إلى ذلك، رأت فئة أخرى أن مشهد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان هو أشبه بانسحاب الاتحاد السوفييتي من أفغانستان في منتصف الثمانينيات حين خطب الرئيس السوفيتي السابق ميخائيل جورباتشوف أمام المكتب السياسي للحزب الشيوعي في نوفمبر 1986، وأقر فيه أن الحرب السوفيتية على أفغانستان كانت حربًا فاشلة، والذي اعتبر في ذلك الوقت بمثابة اعترافًا ضمنيًّا بالهزيمة في الحرب ودلالة على اضمحلال الهيمنة السوفيتية. وفي هذا الصدد، صرح الجنرال السابق بالجيش السوفيتي فيكتور يرماكوف الذي قاد جيش الاتحاد السوفيتي السابق في أفغانستان بين عامي 1982 و1983 لشبكة «سي إن إن» الإخبارية في 23 يونيو الحالي أن الولاياتالمتحدة وقوات التحالف الدولي تغرق نفسها في حرب خاسرة ولا يمكن الانتصار فيها. ففي عام 1979 اجتاحت القوات السوفيتية أفغانستان لتدعم الحكومة الماركسية في كابول، لكنها واجهت فشلاً كبيرًا بعد أن بلغت خسائرها في الأرواح نحو 15 ألف جندي، وأجهد اقتصاد الدولة الشيوعية آنذاك، لتضطر إلى انسحاب مخز عام 1988. وأكمل الجنرال يرماكوف حديثه: «اجتحنا أفغانستان بقوات كبيرة، ولم نذهب هناك لغزوها واحتلالها، لكن لنفرض الأمن والاستقرار، لكن لا يمكنك فرض الديمقراطية بالقوة، الأفغان يقولون الآن إن النظام الأمريكي هو الأفضل تمامًا كما قالوا إن السوفييت ونظامهم كان الأحسن، لكن ما أن تغادر البلاد حتى تعود الأمور إلى حالها، وأود فقط أن أذكركم بمقولة للقائد الأفغاني الشهير سيزار بابور، عندما أكد أن بلاده كانت وما زالت عصية على الغزاة ولن تستسلم لأحد». لكن على النقيض من آراء الجنرال الروسي يرماكوف، فإن صحيفة «نيويورك تايمز» ترى أن السبب الرئيسي وراء قرار الانسحاب هو المعلومات التي تم الحصول عليها من منزل بن لادن، والتي كشفت أن تنظيم القاعدة لم يكن بالقوة التي كانوا يتصورونها، وأن بن لادن نفسه كان محبطًا لأنه لم يكن بإمكانه ادارة العمليات القتالية للتنظيم بواسطة مساعديه الذين كانوا يخشون على حياتهم. 10 سنوات في أفغانستان بتريليون دولار يؤثر العامل الاقتصادي بشكل مباشر على توجهات السياسة الأمريكية في الشأن الأفغاني، خاصة وأن الإحصائيات تشير إلى أن متوسط تكلفة بقاء الجيش الأمريكي في أفغانستان هي 10 مليارات دولار شهريًّا، وبتكلفة إجمالية حوالى تريليون دولار خلال عشر سنوات من البقاء هناك، بالإضافة إلى تكلفة الخسائر البشرية. وأشارت كبرى الصحف الأمريكية إلى تأثير تكلفة الحرب في أفغانستان على توجه الرئيس الأمريكي بالانسحاب، حيث أشارت صحيفة «الواشنطن بوست» أن تنفيذ الوعد بالانسحاب من أفغانستان سيوفر أكثر من ملياري دولار أسبوعيًّا تصرف على بقاء القوات العسكرية هناك، وصاغت صحف أخرى مثل «نيويورك تايمز»، و»تريبيون»، و»صن تايمز»، و»سي إن إن» الإخبارية نسخة شبيهة من الآراء التي تشير أن قرار الرئيس كان يقف خلفه فواتير باهظة كبدت الخزينة الأمريكية تكاليف ضخمة يجب أن توفر أو تسخر لدعم الاقتصاد الوطني. الأزمات الاقتصادية قد تكون سببًا جوهريًّا في التوجه نحو تغيير الإستراتيجيات العسكرية للولايات المتحدة، لكن تختلف آراء النقاد والمحللين حول ما إذا كانت الحرب هي التي أثرت على الاقتصاد أم أن الأوضاع الاقتصادية ذاتها هي التي أثرت على الإستراتيجية العسكرية. الدعم الأمريكي لباكستان.. فترات الصعود والهبوط تشهد المساعدات الأمريكيةلباكستان وتحديدا المساعدات العسكرية، فترات صعود وهبوط منذ توقيع البلدين اتفاقية دفاع مشترك في العام 1956. وعند قراءة التسلسل التاريخي لتلك المساعدات نلمس مدى تذبذب العلاقة والدعم الأمريكي لباكستان. ففي العام 1966 توقف الدعم الأمريكي لباكستان لمدة أربعة أعوام متتالية حتى العام 1970م؛ بسبب الأزمة الهندية الباكستانية ذلك الوقت، وأيضًا في العام 1976م قام الرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر بوقف الدعم الأمريكي لباكستان ما عدا المساعدات الغذائية بسبب عمليات تخصيب اليورانيوم المشع. ولكن الدعم الأمريكي لباكستان شهد صعودًا خلال فترة الغزو السوفيتي لأفغانستان ما بين العام 1981 حتى العام 1989م، ولكن بعد تلك الحقبة توقف الدعم الأمريكي لباكستان لما يقارب العقد من الزمن بسبب برنامجها النووي. وأخيرًا عاد الدعم مجددًا في فترة الرئيس أوبامًا بل تضاعف في الفترة ما بين 2009-2011. وأبدى لورانس رايت من «نيويوركر» تتبعًا تحليليًا لتاريخ العلاقة والدعم الأمريكي لباكستان في مقاله المميز «اللعبة المزدوجة» موضحًا أنه بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، كانت الولاياتالمتحدة تبحث عن ما يجب القيام به من علاقات مع البلدان الفقيرة ذات الكثافة السكانية المرتفعة في آسيا. واختارت أمريكا واحدة من هذه الدول التي سلطت الضوء عليها، وأصبحت على مدى عقود من الزمن تصب المليارات من الدولارات لدعم اقتصادها، وتدريب وتجهيز قواتها العسكرية وأجهزة مخابراتها. الهدف المعلن من ذلك هو إيجاد حليف موثوق به مدعوم بمؤسسات قوية وعصرية وديمقراطية، وفي نفس الوقت إبعادها من التحالف مع دول معادية للولايات المتحدة. وأكمل رايت تقريره باستعراض مقارنة مع الهند الدولة التي لم يقع الاختيار عليها، التي مالت باتجاه الاتحاد السوفيتي خلال الحرب الباردة. وباتت باكستان ربيب أمريكا، ودعمت بقوة معركتها لاحتواء الشيوعية. والفوائد التي نتجت من العلاقة مع باكستان وضحت سريعًا حيث في الستينيات، حيث كان اقتصادها قدوة. أما الهند، على النقيض من ذلك، كانت بالنسبة للولايات المتحدة قضية مقذوفة في سلة المهملات. لكن بعد انقضاء خمسين سنة منذ ذلك الحين، ماذا كانت نتيجة هذه التجربة؟ يبدي رايت رأيه قائلًا: «لقد أصبحت الهند الدولة التي حاولت الولاياتالمتحدة خلقها في باكستان. حيث إن الهند الآن أصبحت النجم الصاعد اقتصاديًا وقوية عسكريًا وذات ديمقراطية مثالية، وتشترك توجهاتها مع المصالح الأمريكية. لكن باكستان هي واحدة من أكثر الدول المعادية للولايات المتحدة في العالم، والراعي السري للإرهاب، سياسيا واقتصاديا، فإنها على شفا كونها دولة فاشلة. وعلى الرغم من أن باكستان تقر بعكس الآراء التي تقول بأنها من أسوأ أعداء أمريكا، فإن اللافت للنظر أن أسامة بن لادن اختبأ هناك لعدة سنوات في ظروف مريحة، قبل أن تكتشف القوات الأمريكية موقعه وتقتله في الثاني من مايو». ومن ضمن ما ذكره رايت في شأن الإرهاب بأنه في عام 2006، وقعت ست عمليات انتحارية في باكستان، وفي العام 2007 وقع 65 حادثًا مشابهًا وقتل ما لا يقل عن 640 شخصًا. وفي العام الماضي، قتل 1200 شخص من جراء تفجيرات انتحارية، كما قتل ما يزيد على 3000 جندي باكستاني في أحداث انتحارية نظمتها المنظمات الإرهابية مثل الجماعة الإسلامية وطالبان وشبكة حقاني وعسكر طيبة، وغيرها، والتي دعمها الجيش الباكستاني. من الواضح أمام هذه الأوضاع البشعة أنه من مصلحة باكستان إعادة تقييم كيفية تعاملها مع المنظمات الإرهابية التي تعمل على أراضيها. فمنذ عام 1954، تقدم الولاياتالمتحدة للجيش الباكستاني مليارات الدولارات في صورة مساعدات عسكرية، والآن تشير الأوضاع إلى أهمية إعادة تقييم من يحصلون على الدعم الاقتصادي الأمريكي. وتدور آراء المحللين السياسيين في الولاياتالمتحدة مؤخرًا في فلك وقف وتقليص المساعدات الأمريكيةلباكستان، هذا التوجه في الرأي ارتبط بعدة عوامل منها العبء الاقتصادي من هذا الدعم، تصاعد المعاداة الشعبية في باكستان ضد الولاياتالمتحدة، مقتل بن لادن بالقرب من مركز تدريب تابع للجيش الباكستاني، قناعات البعض بأن باكستان بدأت تتحول إلى دولة راعية للإرهاب أو تتباطأ في القضاء على الجماعات الارهابية للإبقاء على الدعم الأمريكي لها بشكل مستمر. خارجيا، تنتقد الهند باستمرار الدعم الأمريكي لباكستان، وقد صرح مؤخرًا وزير الدفاع الهندي أيه كيه أنتوني أن المساعدات التي تقدمها الولاياتالمتحدةلباكستان تستخدم ضد المصالح الهندية. ونقلت إيانس عن أنتوني نصيًا قوله: «هذه المساعدات تستخدم ضدنا، وهذه ليست إشارة جيدة من جانب الولاياتالمتحدة، ولقد أثرنا هذه المسألة معهم عدة مرات». الجدير بالذكر، أن نيودلهي اتهمت إسلام آباد مرارًا بمساندة المتمردين الإسلاميين والمسلحين الانفصاليين الذين ينفذون هجمات دموية في الهند، بما في ذلك هجمات مومباي عام 2008. ومن منظور واقعي فإن الأوضاع السياسية والمعيشية في باكستان تجبر الولاياتالمتحدة على الاستمرار في الدعم درءًا لمخاطر تغلغل الجماعات المتطرفة سياسيًا ودينيًا، والولاءات القبلية، ووضع الحدود الباكستانية الأفغانية والحد من قوة طالبان والقاعدة، كل هذه الأمور واقع ملموس تعيشه باكستان ويصعب معها أن تتخلى الولاياتالمتحدة عن استراتيجيتها هناك.