لقد ظن العالم واهما انه بدخوله الألفية الثالثة قد ودع وبلا رجعة "قانون الغاب" الذي يتحكم فيه القوي في كل مقدرات الآخرين بلا وجه حق وانه بالتالي يعيش عالما "يسوده القانون" وتعلو نبراته صوت الحكمة والتعقل إلا ان كل المؤشرات لشديد الأسف تدل على انه قد أخطأ التقدير. فلقد جسدت تصريحات أركان حكومة الرئيس جورج دبليو بوش "الابن" إصرارا عجيبا ومكابرا على المضي قدما في قرارها بشن هجومها المرتقب على العراق متجاهلة في ذلك كل الأصوات التي خرجت محذرة من القيام بعمل يعكس في أبسط صوره خروجا عن الاجماع الدولي ناهيك عن انه سيدخل المنطقة بأسرها في أتون نفق ملحقا أبلغ الضرر بالمصالح الأمريكية في المنطقة. ففيما عدا الصوت البريطاني الذي اكد فيه "توني بلير" رئيس الوزراء البريطاني ان بلاده مستعدة لأن تدفع ضريبة الدم للحفاظ على علاقتها الخاصة مع الولاياتالمتحدة جاءت جميع ردود افعال دول العالم داعية الولاياتالمتحدة الى التروي وتحكيم لغة العقل والمنطق. وفي بون اعلن المستشار الالماني جيرهارد شرودر في تصريحات لصحيفة (نيويورك تايمز) انه يعتقد ان ادارة بوش ترتكب خطأ رهيبا بتخطيطها لشن هجوم ضد العراق. ... وفي بكين أعلن المتحدث باسم الخارجية الصينية أن بلاده تعارض استخدام القوة او التهديد بها لحل المشكلة العراقية. ... وفي استراليا أعلنت الحكومة الاسترالية صراحة عدم نيتها في المشاركة في الهجوم الامريكي المرتقب على العراق قبل حصولها على أدلة "مقنعة" تدين بغداد صراحة في المشاركة بالعمليات الارهابية. ... وعلى الحدود الشمالية للولايات المتحدة استبق جان كريتيان رئيس الوزراء الكندي لقاءه مع بوش "الابن" مظهرا تردد بلاده، وعدم تحمسها للفكرة الامريكية لضرب العراق. بل وحتى الرئيس الأمريكي السابق "بيل كلينتون" في معرض حثه لرئيسه على التروي قبل الاقدام على قراره بضرب العراق عما إذا كانت بلاده تريد التحكم بالعالم في القرن الحادي والعشرين أم تريد قيادته؟ فأجاب هناك فرق كبير. ومع ذلك تمضي حكومة بوش في دقها طبول الحرب غير عائبة بكل هذه الأصوات التي خرجت معارضة لقرارها طالبة منها التروي قبل الإقدام على خطوة من شأنها أن تغرق العالم بأسره في مشاكل يعلم الله وحده كم ستطول. فهاهو الرئيس الامريكي جورج بوش يجوب ولايات بلاده هادفا الى حشد اكبر رأي عام وطني مساند له في قراره. فخلال أربع خطب ألقاها في ولايتي كنتاكي وانديانا حذر بوش من عواقب عدم اتخاذ إجراء حاسم ضد العراق مؤكدا أمله في بناء اجماع دولي لقراره لتوجيه ضربة وقائية ضد العراق متعهدا بتقديم المزيد من المعلومات عن الخطر الذي يشكله العراق على الولاياتالمتحدة وحلفائها مشيرا الى انه سيشرح حججه في الكلمة التي يلقيها أمام الجمعية العامة يوم الخميس المقبل. وفي الاطار نفسه يجتمع "ديك تشيني" ونائب الرئيس الامريكي و"جورج تينيت" مدير المخابرات المركزية الامريكية (CIA) مع زعماء من الكونجرس وصفه "توم داشيل" زعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ بأنه كان مفيدا وقدم معلومات جيدة وان اعضاء الكونجرس تمكنوا من إثارة العديد من التساؤلات. هاهو "آري فلايشر" المتحدث باسم البيت الأبيض يؤكد امتلاك بلاده الكثير من الادلة الكافية التي تبرر إقدام حكومة بلاده على المضي قدما في قرارها بالاطاحة بصدام حسين دون الاشارة من قريب او بعيد لمثل تلك الأدلة.. مضيفا ان مشاعر الحزبين الجمهوري والديمقراطي في الكونجرس تتجه نحو تأييد اقصاء صدام. وهاهي مستشارة البيت الأبيض لشؤون الامن القومي كوندوليزا رايس تتجاهل كل أبجديات الموضوعية والتعقل في ردها على الموقف الالماني الرافض للهجوم الامريكي والقائم على مبررات موضوعية مفادها انه ليس هناك اي تقييم جديد للتهديدات التي يشكلها العراق من شأنه ان يجعل من عملية عسكرية ضد بغداد امرا مقبولا. والذي أبرزته بجلاء تصريحات المستشار الالماني "شرودر" متسائلة هل مازال يتحتم علينا حقا ان نثبت ان صدام حسين يشكل تهديدا للاستقرار الدولي والسلام. وفي هذا الصدد تحاول رايس جاهدة التخفيف "بطريقة ساذجة جدا" ومن خلال اللعب على أوتار قيم الحضارة الاوروبية من الخلافات الواضحة جدا بين واشنطن والاتحاد الاوروبي حول عملياتها المرتقبة في العراق معتبرة ان مايحصل هو مجرد تباعد في وجهات النظر فالجانبان حسب تعبير رايس يدافعان عن قيم واحدة هي قيم الحرية مما يجعلنا نردد بكل المرارة مقولة أيتها الحرية كم من الجرائم ترتكب باسمك. وفي الاطار نفسه تأتي تصريحات وزير الدفاع الامريكي "رونالد رامسفيلد" التي عبر فيها اكثر من مرة عن استعداد واشنطن للقيام بعمل احادي الجانب ضد العراق اذا لم تحصل على دعم حلفائها مؤكدا من خلال عبارات من آمن بلغة القوة على ان المهم هو اتخاذ القرار الصائب وليس السعي الى الاجماع بين حلفاء سيتبعون في مطلق الاحوال القرار الامريكي مما يعطي إشارة لا تحتاج الى دلالات كثيرة ليس فقط عن عدم اكتراث بلاده بمواقف الآخرين بل ومصادرة مواقفهم غير مكترث بما قد يسببه ذلك من فوضى في العلاقات الدولية قد تقود العالم بأسره لمخاطر لا يتسع المقام هنا لحصرها. وختاما فإن مايبدو ان امريكا بوش قد حنت إلى ايام عزلة الثلاثينيات مع فارق بسيط هو ان قرارها وقتئذ كان قرارا قد اتخذته بمحض إرادتها بينما قد يفرض عليها اليوم. وعلى الحب نلتقي