يهفو الانسان الى السعادة، ويتوسل اليها بشتى الطرق رجاء ان تحنو عليه فتجعله من عشاقها المقربين الذين ازدحمت قلوبهم بحبها، وماذاك الا لأن الانسان قد مل وسئم مطاردة الهم له، فتراه خائفا وجلا خشية اقترابه منه، لان الالم، اذا وصل ابواب القلوب دخل دون استئذان، عندها ترفع الرايات البيض، وتنكس الاعلام معلنة الاستسلام لهذا الغازي الشرس وما هناك شيء ابغض الى الانسان من الالم، فماهي الحياة لولا اللذة والسلامة من الالهام؟ فاذا صبرنا عوضنا عنه نعيما لاينفد ولذة لاتنقطع والألم دليل على ان المتألم حي، فلا يتألم إلا الاحياء لذا قال المتنبي: من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت ايلام وربما يبالغ الاديب والشاعر (لوركا) في ضرورة الالم حيث يقول: كم هو مؤلم ألا تتألم. والرومانسيون عندما طفحت أشعارهم بالالم والشكوى كانوا يرون ان الالم طريق الى السمو والتحليق هاهو احدهم يقول: المرء طفل يهديه الالم، لاشيء يسمو بنا قدر ما تسمو الآلام. ونقرأ في رواية (عصفور من الشرق) لتوفيق الحكيم ان محسن عندما وقف عند تمثال دي موسيه الشاعر الفرنسي وعشيق الاديبة جورج صاند قرأ على قاعدة التمثال هذه العبارة: لاشيء يجعلنا عظماء غير ألم عظيم. ونحن اذا قرأنا ديوان الحب ايمان وجدنا مفردة الالم ومترادفاتها بارزة بشكل واضح، فمامن قصيدة الا وجثم عليها الحزن او الهم او الاسى اوالالم والحرقة، والالم في ديوان "الحب ايمان" ناشئ عن المرأة تلك السحابة التي اقترن فيها الماء بالنار، فاذا جادت بمائها فانه مطر لاغيث، مطر يغرق المشاعر والاحاسيس حتى الاختناق. هاهو نديم الليل الشاعر، ينادي على تلك السلوة الالم طالبا منها الرحمة. ياسلوتي بل وياحزني ويا ألمي هلا رحمتم محبا لفه اليتم ويظل الالم يطارد شاعرنا في ليله وذاكرته وفي كل مكان يهرب اليه، لكن الم الشاعر كليل "النابغة الذبياني" يدركه انى توجه الا ان شاعرنا يجد في الليل لذة وانسا لم يجدهما النابغة فيه لذا نجد شاعرنا يخاطب الليل مخاطبة المحب لحبيبه بل النديم لنديمه: انا نديمك هل ترضى مسامرتي انا احبك حب الارض للمطر ولكن الليل هو الاخر لايستطيع ان ينسي شاعرنا ذلك الالم الممض الذي خلفته تلك الحسناء الفاتنة القاسية. هاهو يعد نجوم الليل كعادة العاشقين من قبله رجاء ان يسلو لكن انى له ذلك. كم بت احصى نجوم الليل في سهري الحزن يعصرني والهم والألم وما الحزن والهم الا قناعان من اقنعة الالم التي يختفي وراءها، وان كان البعض يأنس بالذكريات وارتدادها، لما تخلفه من لذة بتذكر ايام مضت وبقيت ذكراها الجميلة. فان شاعرنا يجد في الذكرى الما وفي التداعيات حرقة فها هي الذكرى الأليمة تهجم على قلب الشاعر الوديع كالذئب فتمزق ثيابي النسيان فينزف القلب دماء اللوعة والحسرة. ويوم كأني قد نسيت غرامها وصدري بذكراها الاليمة ضيق كان شاعرنا ايام وصاله معها يجد في صندوق البريد حديقة غناء ازهارها تلك الرسائل المعطرة بأريج الحب والشوق فكان صندوق البريد بمثابة الاوكسجين الذي يجد فيه عبق التنفس الذي يعيد له الحياة من جديد، فلما حل الفراق واستحكم الصد غدا ذلك الصندوق اشبه ما يكون بالقبر المخيف الذي لا انيس فيه الا الدود يقول شاعرنا عنه: وافتح بابه واطل فيه فلا ألقى سوى ألمي الدفين مع هذا الالم المستحكم والملازم للقلب والفكر لايجد شاعرنا منقذا ومخففا من اوار الحب العاثر غير الشعر وهكذا كان من قبله أليس هو القائل: وما الشاعر الحق الاصيل سوى الذي يعالج بلواه ببيت من الشعر؟ اذا هاهو يقول عن الشعر ايضا: ويحمل الشعر آلامي بأكملها عني ويمكث للايام يرويها والعلاج بالشعر جربه قيس بن الملوح وعروة بن حزام فعروة يقول: "وما انشد الاشعار الا تداويا" وفقيه المدينة عبيدالله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود لما لامه الناس في قول شعر النسيب اجابهم بقوله: "لابد للمصدور من ان ينفث". لكن للأسف لم يجد الشعر في قلب صاحبنا، بل ولا حتى الغناء والطرب فهاهو يقول لعازف العود: يا عازف العود لحن منك اشجانا واذرف الدمع من عيني هتانا اوتارعودك في ترنيمها ألمي تسقيني الحزن اشكالا والوانا بعد هذه التطواقة المريره مع الالم في ديوان (الحب ايمان) تصل الى شبه قاعدة وهي ان المحب لايظفر بمحبوبته الا نادرا فالأصل هو الفراق المغلف بالالم الذي يكوي المحب فينزف الشعر والدمع معا فلاحب بلا الم لذا تجد شاعرنا يذعن لهذه الحقيقة المرة فيقول: احببت فيك جراحي لوعتي ألمي احببت منك شموخا ظل يكويني والحب العاثر لايذهب هكذا دون اثر، فهو ان حطم قلبا، وهد حلما فانه يورث عبقرية كانت في حالة كمون فصارت ظاهرة للعيان يقول الشاعر الالماني يوهان غوتيه عن حبه العاثر مع شارلوت بوف التي كتب من اجلها كتابه الشهير "آلام فرتر": "لقد تألمت كثيرا، ولكن الألم كان كالشمعة التي اضاءت نفسي واثارت مواهبي، وهأنذا اعود سليما معافى كما كنت.