أوصى إمام وخطيب المسجد الحرام فضيلة الشيخ الدكتور بندر بليلة المسلمين بتقوى الله -عز وجل – وعبادته وطاعته. وقال في خطبته التي ألقاها في المسجد الحرام " إن من أجمع الفضائل وأسناها، وأكرم الخلائق وأسماها: علو الهمة، ومضاء العزيمة، واتقاد الطموح؛ فإنها تبعث على الاشتغال بمعالي الأمور، ونشدان الكمالات، واستصغار ما دون النهايات، فمن علت همته يختار المعالي، ومن سفلت همته لم يزل يدور في فلك الدنايا علو الهمة سائق إلى كل جميل، وداع إلى كل، حسن.. وهو صفة لازمة لأهل الكمال، وشيمة راسخة عند أرباب الجد والتشمير، فلا تجد نابها وهو دنيء الهمة، قاصر العزيمة، كليل السعي، صاحب الهمة إذا نوى صدق، وإذا عزم حقق، وإذا قصد فوق، وإذا سار سبق، لا يعبأ للصعاب، ولا تثنيه الآلام، ولا تزعزعه الأسقام، وليس من خلق أحرى أن يكون صاحبه من أهل السيادة من علو الهمة، فعالي الهمة سيد القوم، ومقدم الأهل، وزعيم الصحب، ورئيس المقام" . وأوضح فضيلته أن الناس في هذا الباب ضروب شتى، وطرائق قددا، فمنهم من همة قلبه عالية، وطموح نفسه وثاب، لكنه لا يدفعه بعمل، ولا يزوجه بسعي، فهذا امرؤ كثير التمني، قليل التعني، والأماني من غير عمل كسراب بقيعة، أو كبارق خلب، ومنهم من هو قاصر الهمة، ضعيف الإرادة، منكسر العزم، فهذا مشتغل بساقط العمل، مكتف بما تكتفي به الدواب الهوامل، لا يتطلع إلى مأثرة، ولا يسرع إلى ندى، ولا يرجو صقال عقله، ولا غياث روحه، همه في مطعم ومشرب ولذة، فهو بشري الصورة، بهيمي الحقيقة، ومنهم من له همة عالية، وإرادة جازمة، وسعي دؤوب، ولكنه يقصر همته على باب دون باب، وعمل دون عمل، فهذا محسن لكنه مقصر. وأفاد الدكتور بليلة بأن أكمل النفوس نفس تهم بالمعالي، وتغذ إليها المسير تأويبا وإدلاجا، وتستمطر التوفيق والهداية من مانح النفس حياتها ومعطي الروح قوتها -جل وعلا- وتجعل همها في كل معنى شريف، وعز منيف، فلا تعجز ولا تقصر، ثم تجعل غاية الهمة ومنتهى العزيمة في صلاح القلب، ومداواة علل النفس، وإرادة الآخرة، وقصدها بالقصد الأول، وجمع الهم عليها، وتوفير العزم على إصابة أعلى درجاتها، وأكرم مقاماتها، وأبلغ نعيمها المقيم، وفي ذلك يقول النبي الكريم – صلى الله عليه وسلم – مرشدا ومنبها إلى درجة عالية من علو الهمة لا ترضى بالدون: "إذا سألتم الله، فسلوه الفردوس؛ فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة" . وقال فضيلته: "إن علو الهمة مدعاة إلى أن يضرب المرء في كل باب من أبواب الخير بسهم، وألا يغنيه قليل الخير عن كثيره، وهو شأن أرباب الكمال، كما جاء أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال لأصحابه: «من أصبح منكم اليوم صائما؟» قال أبو بكر: أنا، قال: "فمن تبع منكم اليوم جنازة؟» قال أبو بكر: أنا، قال: «فمن أطعم منكم اليوم مسكينا؟» قال أبو بكر: أنا، قال: «فمن عاد منكم اليوم مريضا؟» قال أبو بكر: أنا، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة". وبين فضيلته أن هذا النموذج البكري إنما صنع على نور من كتاب الله وهدي رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وليس ذلك بدعا؛ فإن قراءة كتاب الله بالتدبر والتعقل شحذ للهمم، وإذكاء للقرائح، فكل آية من آياته تدعو إلى فضيلة، أو تحذر من رذيلة، فتنبعث النفس وتتشوق إلى الامتثال، فتحيا فيها الهمة العالية، وتشتعل جذوتها، موضحا أن القرآن هو الذي ربى الأمة وأدبها، وزكى منها النفوس، وصفى القرائح، وأذكى الفطن، وجلى المواهب، وأرهف العزائم، وأعلى الهمم، وقوى الإرادات… فلم يزل بها هذا القرآن حتى أخرج من رعاة الغنم رعاة الأمم، وأخرج من خمول الأمية، أعلام العلم والحكمة، وبهذه الروح القرآنية اندفعت تلك النفوس بأصحابها تفتح الآذان قبل البلدان، وتمتلك بالعدل والإحسان الأرواح قبل الأشباح، ولكن سر القرآن ليس في هذا الحفظ الجاف فحسب، ولا في تلك التلاوة الشلاء، وإنما السر كل السر في تدبره وعقله وفهمه واتباعه، والاهتداء بهديه، والتخلق بأخلاقه. وأبان فضيلة خطيب وإمام المسجد الحرام أن من أبلغ بواعث علو الهمة في نفس المؤمن: قصر الأمل، وتذكر سرعة انقضاء الدنيا، فمتى علم العبد ذلك وأيقنه؛ توفرت همته على المعالي واطرح الصغائر، واستبق الخيرات، وسارع إلى بلوغ المكرمات، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمنكبي فقال: " كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ".