لعل أهم التحديات التي تواجه التعليم في السعودية هو محاولة إيجاد بيئة و أرضية نفسية واجتماعية تستطيع تقبل التغيير المفترض حصوله والذي لابد له أن يؤدي إلى الانفكاك من الإرث الذي سيطال الركائز المتمحورة حول الفهم الديني الاجتماعي الضيق المنغلق المتجسد في النظرة الرجعية للمرأة. وفي منع و تحريم تدريس الفلسفة والموسيقى و في تقبل التعايش مع المختلف والانفتاح على الآخر وذلك يكون أولاً بغرس القيم المدنية الانسانية كمنظومة ضابطة حاكمة للمواطنة ضمن سلوك ايجابي صحي داخل المجتمع المدني. وأيضا تسهم هذه القيم في بلورة وتجسيد شخصية المتعلم الذى من المفترض أن تدفع المؤسسة التعليمية المتعلم ضمن الاطار التربوي ليكون مواطنا فاعلاً في إطاره المجتمعي وأبرز القيم التي ينبغي التركيز عليها هي الحرية و تعزيز مبدأ الفردانية المرتكز حول القيمة المعنوية للفرد من أجل ممارسة أهدافه ورغباته لتكون قيمة مستقلة ومعتمداً على نفسه لتعزيز مبدأ الاستقلالية والذي بكل تأكيد لا يتعارض مع انسجامه المجتمعي المؤسساتي ولكن الهدف من ذلك هو الابتعاد عن اجباره على السير ضمن سياسة القطيع ومصادره حقه في القرار والتفكير. وايضا المساواة والعدالة وسط الاختلاف الطبقي الاقتصادي والاجتماعي منسجماً مع التنوع والاختلاف الكوني سواء الفكري او العقدي او المذهبي او الثقافي لأن الفرد في عصر العولمة مضطر للتعامل والتواصل والتعايش مع مختلف الحضارات والشعوب. كما لابد من تعزيز التسامح والانفتاح كقيم مهمة لمواجهة التعصب والانغلاق والتقوقع , وايضا التعددية والنسبية مقابل التفرد و الأحادية و الاستبداد والالتزام مقابل الالزام والاجبار والمشاركة و التعاون ضد السلبية والعيش في دائرة الصراع كل هذا لدفعه للإحساس بالمسؤولية الفردية من أجل الانصهار في بوتقة النسيج المجتمعي مرتكزاً على التوافق النفسي الاجتماعي للفرد. ثانياً ننتقل للحديث عن المنهج , وهنا اقصد بالمنهج كل ما يحيط ويتعامل معه المتعلم سواء في المؤسسة التعليمية أو في محيطه الاجتماعي فدور المؤسسة التعليمية هو قيادة المجتمع ككل , والتعاطي مع مؤسسات المجتمع المختلفة. فبدلا من أن يركز المنهج على المكتسبات الثقافية في بلد متنوع حضارياً بحكم الامتداد الشاسع جغرافياً قام بالتركيز على استجلاب الماضي في كل تفاصيل الحياة الحالية واغراق الجيل الحالي بالعودة للوراء ومحاولة فرض قيود تم صنعها من التراث توجه نمط التفكير عند المتعلم بطريقة سلبية , فالمنهج يركز على حوادث تاريخية تحث على العنف وعدم التسامح. ومن الشواهد التي ضجت مسامعنا بكثرة ترديدها هي قول الحجاج بن يوسف عند دخول الكوفة : يا أهل الكوفة إني أرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها وإني لقاطفها وما فعله خالد بن القسري يوم الأضحى بالبصرة بعد أن خطب. وفي آخر خطبته قال: انصرفوا إلى منازلكم وضحوا فإني مضحٍ اليوم بالجعد بن درهم ورافق ذلك استضافه الوعاظ في المدارس و الملتقيات الصيفية وممارساتهم المتكررة في استحضار الحوادث الدموية والابداع في التركيز عليها , الامر الذي خلق ارضية خصبة لتقبل العنف مما سهل لدى الشباب عملية الالتحاق بالتنظيمات الارهابية في أماكن الصراع في العالم ومنطقة الشرق الاوسط. كما للتصرفات التي يقوم بها الوعاظ من تحطيم الآلات الموسيقية و المنتشر مشاهد ذلك في وسائل التواصل الاجتماعي والتي تعكس ما يحصل في الملتقيات الصيفية وهؤلاء الوعاظ هم ابطال المؤسسات التعليمية من خلال حضورهم المستمر بها. فبدلا من الاستفادة من الموسيقى في عمليّة التعلّم السريع للغة لأنها أحد التقنيات المساعدة للتحصيل العلمي بالإضافة إلى مساهمتها في تعديل السلوك عند الطلاب وتستخدم في علاج بعض الاضطرابات النفسية ومساعدة الطلاب ذوي الاحتياجات الخاصة لتعديل وتهذيب السلوك. وايضا تساهم في عملية تقديرهم الذاتي ودمجهم مع محيطهم الاجتماعي حيث أن الموسيقى اصبحت لغة تواصل وسلام وحوار وتفاهم بين اتباع الثقافات المختلفة نرى القيام بتحطيم هذه الآلات في سلوك غير حضاري يمارس على الشباب وصغار السن ويؤدي ذلك لتحطيم كل ما هو جميل فيهم ويسهل عملية انسياقهم وراء دعوات العنف ونبذ الآخر والتقوقع على الذات. وبالعودة الى التنوع الحاصل في السعودية حضارياً بحكم الامتداد الشاسع جغرافياً لابد أن يصاغ المنهج وفق هذا الإطار فلابد أن يؤخذ في الاعتبار العامل الجغرافي والاجتماعي و الثقافي والاقتصادي والديموغرافي من حيث اختلاف المنهج تبعا لتغير العوامل الآنف ذكرها فمن يدرس في العاصمة المقدسة مكةالمكرمة على سبيل المثال لابد أن يرتكز تعليمه على سياسات موائمة لسياقه الحضري وذلك للاستفادة من خاصية المكان بوجود الحرم المكي كونها تدور حول السياحة الدينية اقتصادياً وثقافياً واجتماعياً ومساهمتها في تغير التركيبة الديموغرافية. في المقابل نجد منهج مدينة مثل مدينة جدة الساحلية لابد أن يرتكز للاستفادة من خاصية المكان لاستغلال الفرص الاقتصادية والاجتماعية التي تتمحور حول صناعة السياحة و الصيد البحري لمدينة يشكل البحر حجر الزاوية بها. كما أن المنهج قد يختلف في المدينة الواحدة باختلاف العامل الجغرافي والاقتصادي والاجتماعي والديموغرافي , وهذا لا يعني عدم وجود مشتركات عامة يتفق عليها المنهج في السعودية ككل في المقابل كما اشرت لابد من وجود اختلاف نظراً لاختلاف العوامل فالمنهج لابد أن يتأرجح بين الثابت والمتحرك المتغير. في الختام أضع هذه الافكار وهي عبارة عن تصور مبسط لمبادرة هدفها تحسين التعليم حيث أنني الآن ملتحقاً ببرنامج أعداد القادة من أجل التغيير في فنلندا وهي دعوة أطلقها لكل من يهمه أمر التعليم في السعودية من أجل التغيير وقبول المبدأ والتفكير والنقد والعمل. [email protected] باحث وكاتب هلسنكي