الحمد لله ربِّ العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد ، أما بعد: فقد اطلعت على مقال في صحيفة الوئام بتاريخ السادس من شوال 1438ه بعنوان (وقفات مع حديث صيام الست من شوال) . وهذا المقال تضمن أخطاء منهجية تتعلق بالتعامل مع أحاديث السُّنة النبوية الغراء، وجرأةً على أعظم كتابين لدى المسلمين بعد القرآن العظيم وهما "الصحيحان" صحيح البخاري وصحيح مسلم، ومخالفةً لما عليه الفتوى من دار الإفتاء بالمملكة العربية السعودية المخولة بالفتوى من ولي أمر البلاد حفظه الله وأيّده، ومجازفةً بإطلاق أحكام جائرة على علماء أئمة دون مراعاة للأدب ولا للتخصص، وبخاصة أن لغة المقال غير علمية، وكاتبه غير متخصص في هذا المجال كما يدرك ذلك المتخصصون، حتى إنَّ كتابته حوت أخطاء نحويةً مما يتعلمه ويتقنه طلاب المرحلة الابتدائية، فكيف يسوغ بعد ذلك أن يتاح المجال لمثل هذا المقال أن يصادم أصولاً وثوابت مقررة، تحت مبرر ما سماه المقال طريق التنوير، فالتنوير الذي يصادم الثوابت ويخالف أئمة العلماء والسياسة الشرعية التي أقرَّها ولي الأمر ليس تنويراً ، بل هو ضلال وظلمة. وذلك ما أوجب التعقيب على المقال المشار إليه حتى يتجنب الناس الأخطاء التي تضمنها. وقد عرضت هذا التعقيب على سماحة شيخنا المفتي العام للمملكة ورئيس هيئة كبار العلماء وتشرفت بقراءته عليه حفظه الله ، فأقرَّه وحثَّ على نشره. وهذا تفصيل ما تقدم من إجمال: بداية هذا نصُّ الحديث بسنده وبطرقه التي ساقها الإمام مسلم رحمه الله في "صحيحه" حيث قال: حدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة بن سعيد وعلي بن حجر جميعاً عن إسماعيل قال ابن أيوب حدثنا إسماعيل بن جعفر أخبرني سعد بن سعيد بن قيس عن عمر بن ثابت بن الحارث الخزرجي عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " مَنْ صام رمضان ثم أتبعه سِتاً من شوال ؛ كان كصيام الدهر " ، وحدثنا ابن نمير حدثنا أبي حدثنا سعد بن سعيد أخو يحيى بن سعيد أخبرنا عمر بن ثابت أخبرنا أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بمثله ، وحدثناه أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الله بن المبارك عن سعد بن سعيد قال: سمعت عمر بن ثابت قال: سمعت أبا أيوب رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثله. وتعقيباً على المقال المشار إليه أقول: أولاً: بدأ المقال هجوماً سافراً على المسلمين وتجهيلاً لهم في أمر معلوم من الدين بالضرورة، حيث نبزهم بالابتداع في الدين والتغيير في عدة رمضان إلى ثلاثةٍ وستين يوماً. فجاء المقال في أول سطر منه: (أصبح في عرف كثير من العامة وحتى طلبة العلم، أن صيام رمضان ستاً وثلاثين يوماً، ثلاثون في رمضان وستاً في شوال). وهذا التجهيل والإزراء على المسلمين ينزهون عنه جميعاً ، فدينُ الله واضح بيِّن، وعدة الشهور معلومة ولله الحمد. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم " رواه مسلم. قال العلامة النووي رحمه الله في شرحه: اتفق العلماء على أن هذا الذم إنما هو فيمن قاله على سبيل الإزراء على الناس واحتقارهم، وتفضيل نفسه عليهم، وتقبيح أحوالهم، لأنه لا يعلم سر الله في خلقه. قالوا: فأما من قال ذلك تحزنا لما يرى في نفسه وفي الناس من النقص في أمر الدين فلا بأس عليه، كما قال: لا أعرف من أمة النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنهم يصلون جميعاً. هكذا فسره الإمام مالك وتابعه الناس عليه. وقال الخطابي: معناه لا يزال الرجل يَعيب الناس ويذكر مساويهم ويقول: فسد الناس وهلكوا ونحو ذلك، فإذا فعل ذلك فهو أهلكُهم، أي: أسوأ حالاً منهم بما يلحقه من الإثم في عيبهم والوقيعة فيهم، وربما أداه ذلك إلى العُجب بنفسه، ورؤيته أنه خير منهم. والله أعلم. انتهى. ثانياً: دعوى المقال بأن الحديث ضعيفٌ غير مسلَّمة ، بل مردودة ، فالحديث جاء مسنداً في "صحيح مسلم" وهذا كافٍ في قبوله ، لما هو معلوم من مكانة "صحيح مسلم" وتلقي الأمة له بالقبول. كيف وقد جاء الحديث من طرق أخرى معتبره، حيث رواه أئمة من العلماء أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد بطرق صحيحة وبألفاظ متعددة عن أكثر من صحابي مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهي في علم الحديث شواهد ومتابعات كافية لتصحيح الأحاديث، وهنا أزالت إشكالاً على راوٍ من رجال مسلم تكلم عليه بعض العلماء ، فانتقى الإمام مسلم ما صحَّ عنده من حديثه، على ما سيأتي بيانه، ثم جاءت هذه الشواهد والمتابعات لتؤكد صحته وتثبت قوته. ثالثاً: الحديث صححه جِلةٌ من أهل العلم من المتقدمين والمتأخرين، وممن صححه: مسلم والترمذي وابن خزيمة وابن حبان والدارقطني والبيهقي والهيثمي والقرطبي و ابن القيم وابن الملقن وابن حجر والمباركفوري والخطيب التبريزي ومحمد بن مفلح المقدسي وابن باز والألباني والأرنؤوط وغيرهم رحمهم الله. وبالإضافة إلى ما تقدم فإن أبا نعيم الأصبهاني قد أخرج هذا الحديث في "مستخرجه" وهذا حكم منه على سلامته من العلة؛ كما بينه الحافظ ابن حجر رحمه الله حيث قال: "كلُّ عِلةٍ أُعلَّ بها حديث في أحد "الصحيحين" جاءت رواية المستخرج سالمة منها". وبذلك كان العمل بهذا الحديث عملاً بالسُّنة الثابتة ، وليس بحديث ضعيف كما ادعاه المقال. رابعاً: العلة التي اتكأ عليها المقال ليست شيئاً جديداً يكتشفه، بل سبقه لإيراد ذلك أئمة معتبرون عرضوها عن علم وأدب ودراية، وعنهم نقل المقال بلا عزو لهم ولا التزام بأدبهم ولا سلوك لمنهجهم، ومع ذلك فهي مما أجاب عنه المحققون من أهل العلم وبينوا أنها لا تقدح في قبول الحديث والعمل به. فالعلة التي ذكرها المقال المشار إليه لم يغفل عنها العلماء فقد وقفوا عليها – وهم الخبراء العالمون بهذا الفن – وأجابوا عنها ، ويضيق المقام عن النقل عنهم جميعاً فأكتفي ببعضهم ، فمنهم العلامة ابن القيم الذي عُني بتخريج هذا الحديث وذكر طرقه وشواهده في "تهذيب السنن" ثم قال رحمه الله: " وهذه العلل وإن منعته أن يكون في أعلى درجات الصحيح فإنها لا توجب وَهْنَه. وقد تابع سعداً ويحيى وعبدربه عن عمر بن ثابت: عثمان بن عمرو الخزاعي عن عمر. لكن قال: عن عمر عن محمد بن المنكدر عن أبي أيوب. ورواه أيضاً صفوان بن سليم عن عمر بن ثابت ذكره ابن حبان في "صحيحه" وأبو داود والنسائي. فهؤلاء خمسة: يحيى وسعيد وعبد ربه بنو سعيد, وصفوان بن سليم , وعثمان بن عمرو الخزاعي كلهم رووه عن عمرو، فالحديث صحيح. ثم ساق العلامة ابن القيم طرقه عن ثوبان عند ابن حبان في "صحيحه" وابن ماجه. وعن جابر عند أحمد في "مسنده" ومن حديث أبي هريرة رواه أبو نعيم ، وبيَّن ما يصلح منها للاعتبار ثم قال: "وهذه الطرق تصلح للاعتبار والاعتضاد ". ثم قال رحمه الله: وبالجملة : فلم ينفرد به سعد, سلمنا انفراده, لكنه ثقة صدوق, روى له مسلم,وروى عنه شعبة وسفيان الثوري وابن عيينة وابن جريج وسليمان بن بلال, وهؤلاء أئمة هذا الشأن. انتهى المقصود. وقال العلامة المناوي رحمه الله في "فيض القدير" : وطعن فيه من لا علم عنده وغرَّه قول الترمذي حسن والكلام في راويه وهو سعد بن سعيد، واعتنى العراقي بجمع طرقه فأسنده عن بضعة وعشرين رجلاً رووه عن سعد بن سعيد أكثرهم حُفَّاظ أثبات " . وقال العلامة الصنعاني رحمه الله في كتابه "سبل السلام" : قال السبكي رحمه الله تعالى: قد طعن في هذا الحديث من لا فهم له مغتراً بقول الترمذي: إنه حسن. يريد في رواية سعد بن سعيد الأنصاري أخي يحيى بن سعيد… وقد اعتنى شيخنا أبو محمد الدمياطي بجمع طرقه فأسنده عن بضعة وعشرين رجلاً رووه عن سعد بن سعيد، وأكثرهم حفاظ ثقات منهم السفيانان، وتابع سعداً على روايته أخوه يحيى وعبد ربه وصفوان بن سليم وغيرهم، ورواه أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم: ثوبان وأبو هريرة وجابر وابن عباس والبراء بن عازب وعائشة، ولفظ ثوبان: «من صام رمضان فشهره بعشرة، ومن صام ستة أيام بعد الفطر فذلك صيام السَّنة» رواه أحمد والنسائي. " انتهى. خامساً: دعوى المقال تضعيف الحديث بضعف أحد رواته وهو (سعد بن سعيد بن قيس الأنصاري الخزرجي النجاري المدني المتوفى عام 141ه رحمه الله ) دون اعتبار لتحقيق المسألة من قبل أهل العلم الأثبات من المتقدمين والمتأخرين، هذه الدعوى غير مسلَّمة ، فهذا الراوي وإن وُجد من العلماء من تكلم فيه من جهة حفظه فهذه النقولات بالتضعيف تحتاج تمحيصاً دقيقاً ، وبخاصة أنه قد وثَّقه عددٌ من العلماء أهل الشأن. وللدكتور قاسم علي سعد أستاذ الحديث بجامعة أم القرى بمكة المكرمة تحريرٌ حسنٌ حول الحكم على سعد بن سعيد بعد مقارنة وتتبع وتحقيق ، أودعه كتابه "منهج الإمام النسائي في الجرح والتعديل" ولجودته واستقصائه أنقله هنا بتمامه حيث قال وفقه الله: اختلف النقَّاد في الحكم على سعد بن سعيد بين مُعدِّل ومُجرِّح، كما اختلف كل فريق في تحديد المرتبة التي يستحقها. فالجمهور عدَّلوه، ووثَّقه جماعةٌ منهم. وذهب الباقون إلى جرحه وتليينه، وهم ابن مَعينٍ في رواية، وأحمد بن حنبل والترمذي والطوسي وابن حزم والذهبي في موضع، فأما الأول: فلم أرَ تضعيفه له مُسنداً، وقد اشتهر عنه تعديله له، بل إنه وثَّقه. لذا: لا يُعتد بالتضعيف، خاصةً وأنه غير مفسَّر. كما أن المشهور عن الذهبي في جملة كُتبه تعديله وتوثيقه له، وقد ليَّنه في غير ترجمته. ولا شك أنه يكون أعلم به حين إيراد ترجمته منه في غيرها، ولعل تليينه له نِسبيّ. لذا: لا ينبغي التعويل على غمز الذهبي لسعد. أما ابن حزم: فإنه شذَّ بتضعيفه جداً، وهو متشدد. وأما الطوسي: فإن من عادته اتباع الترمذي، وقد تبعه هنا، فيُستغني بقول الترمذي عن قوله. فخلص من ذلك: قولا أحمد والترمذي. لكنهما لم يوضحا السبب. والحديث الذي علَّق بعده الترمذي بذاك القول حديثٌ صحيحٌ أخرجه مسلم في "صحيحه" في كتاب الصيام، باب استحباب صوم ستة أيام من شوال إتباعاً لرمضان محتجاً به من طريق سعد. بل إن الترمذي قال في "جامعه" عقب هذا الحديث : "حديثٌ حسنُ صحيح". وقد أُخذ على سعد شيء في حديثه، لكني لم أجد ما يخرجه عن درجة المحتج بهم في الجملة ، وأحسن ما قيل فيه: قول ابن عدي الخبير بالروايات وعللها : "ولسعد بن سعيد أحاديث صالحة تقرب من الاستقامة، ولا أرى بحديثه بأساً بمقدار ما يرويه" . وخلاصة القول: إنَّ سعد بن سعيد الأنصاري صدوقٌ إن شاء الله، حسن الحديث في الجملة. انتهى. سادساً: يحمل قول من أطلق الضعف على سعد بن سعيد بأنهم أطلقوا هذا الوصف بالنسبة لأخويه اللذين هما أوثق منه ، فصار كأنه ضعيف بالنسبة إليهما. فأخواه يحيى بن سعيد ، وعبد ربِّه بن سعيد ، كلاهما أوثق منه ، فيحيى ثبتٌ حجة ، وعبدربه ثقة لكنه دون يحيى. ثم دونهما سعيد ، فصار كأنه ضعيف بالنسبة لهما. فالإمام أحمد والنسائي تكلما عليه في معرض كلامهما على أخويه: يحيى وعبد ربه ، ولعل النَّسائي تابع الإمام أحمد في حكمه على سعد بن سعيد، وبخاصة أنه نقل كلامه في السنن، وأعاده مرتين، مرة على لسانه، ومرة على لسان أحمد. وقال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث دون أخيه . وكذلك يعتذر بتخريج الإمام مسلم لسعد بن سعيد في "صحيحه" الذي من شرطه فيه ثقة وعدالة رجاله، – وحيث إن سعد بن سعيد لم يسلم من قدح- يعتذر لمسلم بأنه قد انتقى من حديثه ما رآه داخلاً في شرطه، ولذلك نجد الإمام البخاري رحمه الله قد استشهد به في "الجامع الصحيح" وروى له في "الأدب المفرد" . ومن هذا ما نبه إليه الحافظ ابن الصلاح رحمه الله في كتابه "صيانة صحيح مسلم" في معرض كلامه عن سبب وجود بعض الرواة الضعفاء في "صحيح مسلم" فقال: "عاب عائبون مسلماً بروايته في "صحيحه" عن جماعة من الضعفاء أو المتوسطين الواقعين في الطبقة الثانية ، الذين ليسوا من شرط الصحيح أيضاً. والجواب أن ذلك لأحد أسباب لا مَعَاب عليه معها ، وسرد طائفةً منها. وختم بقوله: إن الحكم على راوٍ خرَّج له الإمام مسلم يتوقف على النظر في أنه كيف روى عنه وعلى أي وجه روى عنه على ما بيناه من انقسام ذلك والله سبحانه أعلم. وقال العلامة ابن القيم: "لكن مسلم إنما احتج بحديثه؛ لأنه ظهر له أنه لم يخطئ فيه بقرائن ومتابعات وشواهد دلته على ذلك، وإن كان قد عرف خطؤه في غيره، فكون الرجل يخطئ في شيء لا يمنع الاحتجاج به، فيما ظهر أنه لم يخطئ فيه، وهكذا حكم كثير من الأحاديث التي خرَّجاها، وفي إسنادها من تُكُلِّم فيه من جهة حفظه، فإنهما لم يخرجاها إلا وقد وجدا لها متابعا " . وقال العلامة الزيلعي رحمه الله في "نصب الراية" : صاحبا الصحيح – رحمهما الله – إذا أخرجا لمن تُكُلِّم فيه فإنهم ينتقون من حديثه ما تُوبع عليه، وظهرت شواهده، وعُلِم أن له أصلاً، ولا يروون ما تفرد به، لا سيما إذا خالفه الثقات " . سابعاً: دعوى أن الحديث موقوف: حيث جاء في المقال: (وكل طرقه عن صفوان بن سعيد وغيره وما صححه الألباني لا تصح مرفوعة بل موقوفة، ولا يمكن الجزم بها لأنها من طرق واهية) . أقول: هذه الدعوى مجازفة مردودة ، وقد أجاب عنها العلماء رحمهم الله وبينوا أن الحديث صحيح بطرقه وشواهده المتعددة وأنه ثابتٌ مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقد جاء الحديث موصولاً حيث صرح أبو أيوب رضي الله عنه بالسماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكثر من طريق ، كما عند النسائي في السنن الكبرى، وأحمد في "المسند" أحمد ، وفي "معجم الطبراني الكبير" و "السنن الكبرى" للبيهقي وغيرها. وفي هذا يقول العلامة ابن القيم رحمه الله: " أما رواية عبد ربه بن سعيد له موقوفاً فإما أن يقال: الرفع زيادة. وإما أن يقال: هو مخالفة وعلى التقديرين: فالترجيح حاصل بالكثرة والحفظ، فإن صفوان بن سليم ويحيى بن سعيد – وهما إمامان جليلان – وسعد بن سعيد – وهو ثقة محتج به في الصحيح – اتفقوا على رفعه, وهم أكثر وأحفظ، على أن المقبري لم يتفق عنه على وقفه. بل قد رواه أحمد بن يوسف السلمي شيخ مسلم, وعقيل بن يحيى جميعاً عنه عن شعبة عن عبد ربه بن سعيد عن عمر بن ثابت عن أبي أيوب مرفوعاً، وذكره ابن منده , وهو إسناد صحيح موافق لرواية الجماعة, ومقوٍّ لحديث صفوان بن سليم وسعد بن سعيد". وأجاب ابن القيم عن دعوى أخرى وفندها حيث قال رحمه الله: فإن قيل : فالحديث – بعد هذا كله – مداره على عمر بن ثابت الأنصاري , لم يروه عن أبي أيوب غيره , فهو شاذ , فلا يحتج به ! . قيل : ليس هذا من الشاذ الذي لا يحتج به , وكثير من أحاديث الصحيحين بهذه المثابة : كحديث " الأعمال بالنيات " تفرد علقمة بن وقاص به , وتفرد محمد بن إبراهيم التيمي به عنه , وتفرد يحيى بن سعيد به عن التيمي . وقال يونس بن عبد الأعلى : قال لي الشافعي : ليس الشاذ أن يروي الثقة ما لا يروي غيره , إنما الشاذ : أن يروي الثقة حديثا يخالف ما روى الناس . وأيضا فليس هذا الأصل مما تفرد به عمر بن ثابت , لرواية ثوبان وغيره له عن النبي صلى الله عليه وسلم" انتهى. ثامناً: مخالفة المقال لمنهج العلماء الأثبات في التعامل مع الأحاديث: حتى ندرك ما فات المقال المشار إليه من الفهم والحكمة والرسوخ فلنا أن نقف على منهجية العلماء رحمهم الله في التعامل مع هذا الحديث وما ماثله مما يقع بينهم فيه الخلاف ، أدباً منهم مع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وورعاً منهم أن يقولوا في دين الله ما لا يعلمون ، وسمتاً حكيماً يتحلَّون به في مسائل الخلاف ، بضد ما تبناه المقال المشار إليه. قال العلامة المباركفوري الحنفي رحمه الله في "تحفة الأحوذي" : قلت: قول من قال بكراهة صوم هذه الستة باطل مخالف لأحاديث الباب، ولذلك قال عامة المشايخ الحنفية بأنه لا بأس به " انتهى. وقال العلامة ابن عبدالبر القرطبي المالكي رحمه الله في "الاستذكار" : لم يبلغ مالكا حديث أبي أيوب على أنه حديث مدني، والإحاطة بعلم الخاصة لا سبيل إليه، والذي كرهه له مالك أمر قد بينه وأوضحه، وذلك خشية أن يضاف إلى فرض رمضان وأن يستبين ذلك إلى العامة، وكان رحمه الله متحفظاً كثير الاحتياط للدين. وأما صيام الستة الأيام من شوال على طلب الفضل وعلى التأويل الذي جاء به ثوبان رضي الله عنه فإن مالكاً لا يكره ذلك إن شاء الله؛ لأن الصوم جُنة وفضلُه معلوم لمن رد طعامه وشرابه وشهوته لله تعالى، وهو عمل بِرٍّ وخير، وقد قال الله عز وجل: (وَافْعَلُوا الخيرَ) [الحج: 77] ومالكٌ لا يجهل شيئاً من هذا، ولم يكره من ذلك إلا ما خافه على أهل الجهالة والجفاء إذا استمر ذلك وخشي أن يعدُّوه من فرائض الصيام مضافاً إلى رمضان، وما أظن مالكاً جهل الحديث ، والله أعلم. انتهى. وقال ابن رشد المالكي رحمه الله في "بداية المجتهد" : وأما الست من شوال، فإنه ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «من صام رمضان، ثم أتبعه ستاًّ من شوال، كان كصيام الدهر» إلا أن مالكاً كره ذلك، إما مخافة أن يُلحِق الناسُ برمضان ما ليس في رمضان، وإما لأنه لعلَّه لم يبلغه الحديث، أو لم يصح عنده، وهو الأظهر " انتهى. وقال العلامة النووي الشافعي رحمه الله في شرح الحديث: فيه دلالة صريحة لمذهب الشافعي وأحمد وداود وموافقيهم في استحباب صوم هذه الستة ، وقال مالك وأبو حنيفة : يكره ذلك ، قال مالك في الموطإ : ما رأيت أحداً من أهل العلم يصومها ، قالوا : فيكره ؛ لئلا يظن وجوبه. ودليل الشافعي وموافقيه هذا الحديث الصحيح الصريح ، وإذا ثبتت السنة لا تُتْرك لترك بعض الناس أو أكثرهم أو كلهم لها ، وقولهم : قد يظن وجوبها ، ينتقض بصوم عرفة وعاشوراء وغيرهما من الصوم المندوب . قال أصحابنا : والأفضل أن تصام الستة متوالية عقب يوم الفطر ، فإن فرقها أو أخرها عن أوائل شوال إلى أواخره حصلت فضيلة المتابعة ؛ لأنه يصدق أنه أتبعه ستّاً من شوال، قال العلماء: وإنما كان ذلك كصيام الدهر؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها، فرمضان بعشرة أشهر، والستة بشهرين، وقد جاء هذا في حديث مرفوع في كتاب النسائي. انتهى. وقال العلامة ابن القيم: أما قولكم: إن الحديث غير معمول به : فباطل , وكون أهل المدينة في زمن مالك لم يعملوا به لا يوجب ترك الأمة كلهم له , وقد عمل به أحمد والشافعي وابن المبارك وغيرهم . وللباحث الدكتور محمد مصلح الزعبي بحث محرر بعنوان "صيام ست من شوال دراسة حديثية فقهية" منشور في "المجلة الأردنية في الدراسات الإسلامية" ضم تحريراً وتحقيقاً طيباً. تاسعاً: جاء في المقال إطلاق عبارة (قول الصحابي ليس حجة) وهذا الإطلاق فيه تعامٍ عما حرره العلماء في هذه المسألة ، وهذا منهم رحمهم الله عن علم ورسوخ وأدب وورع ، فكيف يجازف المقال بالإعراض عن تحقيقات أئمة العلماء ويجزم برأي مستدرك عليه في مسألة عظيمة أخذت حظها من البحث والتحقيق، ولذلك فالأصوليون متفقون على الأخذ بقول الصحابي فيما لا مجال للرأي والاجتهاد فيه مسلك؛ لأنَّ له حكم الرفع، فهو من قبيل الخبر التوقيفي عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا خلاف أيضًا فيما أجمع عليه الصحابة رضي الله عنهم، أو كان مما لا يُعرف له مخالف، إلى آخر ما حرره العلماء عن علم ورسوخ في هذه المسألة. مع التأكيد بأن العمل باستحباب صيام الست من شوال ليس مستنده فعل الصحابة ، وإنما حثُّ النبي صلى الله عليه وسلم وترغيبه. عاشراً: جاء في آخر المقال تلويحٌ بضعف الحديث الثابت في فضل صوم يوم عاشوراء! وهذه جرأة لا تبعد عن سابقتها ، ذلك أن مشروعية صوم يوم عاشوراء وما جاء في فضله من أحاديث ، ثابتٌ في الصحيحين وفي السنن والمسانيد من طرق متعددة. فينبغي أن يعلم أن اندفاع المقال المشار إليه وما شابهه لتوهين شيء من أحاديث الصحيحين بلا علم ولا هدى ، لما يجب إنكاره وردُّه ، فإنَّ كلاً من صحيح البخاري وصحيح مسلم بالمقام الأسنى ، كما وضحته في مقال سابق بعنوان: (صحيح البخاري أصح الكتب بعد القرآن بإجماع الأمة وهو شعار السُّنة المطهرة وذروة سنامهاhttp://www.alukah.net/web/khalidshaya/11380/55223/ ) فلا يقبل من عالم متبحر أن يتفرد برأي طاعنٍ فيهما ، بل ذلك مدعاة للقدح فيه، كيف والمقال الذي انتصب لهذه الدعوى المردودة معلوم تهافته وأنه لدى أهل التخصص لا اعتبار ولا اعتداد به. ولولا خشية تشويشه على الناس بعد نشره في المواقع لما توجهت لتفنيده والرد عليه. والقاعدة أن البيان لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة. وخلاصة القول: الكلمة التي جاءت في آخر المقال المشار إليه أن من غربة الدين أن يجترئ من لم يتأهل للفتوى ولا للاجتهاد ليطعن في السنن الثابتة وفي ذروة سنام السُّنة النبوية الصحيحين، ويخالف العلماء أهل الرسوخ ويصادم ما عليه الفتوى في البلاد من مرجعها، ويشوش على المسلمين عقيدتهم وتعبدهم لربهم جل وعلا. وهذا كله يوجب رد هذه الأباطيل وتحذير الناس منها حتى لا تروج عليهم. والله المسؤول جلَّ شأنه أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وأن يثبتنا على منهاج القرآن والسنة بفهم سلف الأمة، وأن يعيذنا من الزيغ والانحراف، وأن يحفظ علينا عقيدتنا وأمننا وقيادتنا واستقرارنا. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
بقلم خالد بن عبدالرحمن الشايع الأمين العام المساعد للهيئة العالمية للتعريف بالرسول صلى الله عليه وسلم ونصرته 20 شوال ذ438ه