قصص عجيبة متناثرة جمعتها لكم ونظمتها في عقد ومقال، وبما أنّنا في زمن السرعة وغياب التحليل والإطناب، فلابد أن أعصر لكم أفكاري لتكون وجبة خفيفة أثناء سيركم. محمد المبارك معلمي في أولى ابتدائي، رجل غريب وقصتي معه أغرب، ومثيرة للضحكة، رغم أني لم أقابله إلا مرتين بعد غيابه عشرين عامًا ! فاللقاء الأول كان قبل ليلة العيد، كان يسير بسرعة كعادته أطال الله عمره، تلعثمت وطار نفسي حينما لمحته، هتفت بصحبي الذين كانوا يسيرون معي ! هل عرفتم هذا الرجل ؟ من ؟ ذاك يا أغبياء انظروا إليه قبل أن يختفي بين السيارات ! – دعه يذهب ودعنا نشتري لوازم العيد واترك عنك الفضول الزائد ! – يا رفاق هذا الأستاذ محمد المبارك ! – ليس بصحيح ! – ما دام أنه ليس بصحيح فسأذهب وأخبركم عن شأنه.. – اذهب ! الحمد لله أدركته بسرعة ونبضات قلبي كأنها طبل في يد مخمور طربان، فلا يسكن ولم يرجع إلى وضعه الطبيعي.. – أستاذ محمد المبارك ؟ – نعم.. من أنت ؟ – أنا فلان من طلابك.. هل تذكرتني ؟ – يبدو أن ملامح وجهك قد تغيرت فأنا أعرفك بالدم.. فأنت من تلك العائلة – وقد صدق – ولكن لا أتذكرك شخصيا يابني ! – ابتسمت لفراسته، ثم دار بيني وبينه حديث أشبه ما يكون بماء الفرات، ثم جاؤوا صحبي يهرعون بعدما رأوا أنني أطلت الوقوف معه فتقرر لديهم أنني محق وأنه معلمنا المخلص. مع مضي الأيام والليالي وبعد ذاك اللقاء الماتع.. يا للأسف لقد ضاع رقمه من جهازي، وحزنت عليه حزنًا شديدًا لا يعلم به إلا من فلق الحب والنوى ! كنت أستعيد محور حديثي معه مرارًا وأقول لنفسي هل تغيرتي يا نفس عليه لكي يستنكر ؟ هل تبدلت يدّي عليه ؟ صوتي ! أين ذهب ذاك الصوت الرخيم عني وعنه، أليس ذاك الطفل الصغير هو أنا ؟! لم نسيني أستاذي وقد درسني عامًا كاملاً وكنت أمامه في الطاولة الأمامية وأشارك أمام ناظريه لا أغيب ! لكن ما أكرمه.. علمني حروف الهجاء وتمكنت منها ثم رحل ولم يعلم أنني تدرجت بمستوى القراءة من بعده، وتعلمت بعضًا من الفنون من سبورته الخضراء والطباشير الأبيض والأحمر، وكتبت مقالات عدة، ومقالاً كان في سببه الآن، إنني يا سادة حريص على لقائه.. أولاً: وفاءً له، ثم أني وجدت رائحة الذكريات تغمرني من كل مكان حين ألقاه، سبحان الله رائحة عطره عادت بي إلى تلك الأيام، كأن رائحته لم تتغير.. فهل تعود تلك الصدفة الذهبية أم يعود لي رقمه فأزوره أو أدعوه وأكرمه ! صوارف الدهر وغوائل الأيام وشواغل الحياة لم تنتشل هذا الرجل من ذاكرتي، فبعد خمسة أعوام وقفت أمام صنبور الماء عند إحدى مساجد بريدة، وكان هذا المسجد ملاصقًا لإحدى المدارس، خرج رجل من دورة المياه وقد وضع شماغه على الباب بكل بساطة، والشيب قد اشتعل في رأسه ولحيته، ثم أمسك الصنبور ليفتح الماء ثم وضع نظارته في جيبه، نظرت إليه فأحسست أن شيئًا يسير ببطئ بين العظم واللحم من هول ما أرى، والرجل في غاية الغرابة من دهشتي به. محمد المبارك ؟ نعم.. من أنت ؟ أنا تلميذك فلان وقد التقيت بك قبل خمس سنوات قبل ليلة العيد ! هل نسيت ؟ – أهلا بك يا بني .. اعذرني والعتب على النسيان، فلقد قابلت في حياتي طلابًا ومدارس ومعلمين ومدراء وبشر فذاكرتي يا بني لم تعد تحتفظ بالأشياء، وتعمدت ألا أحفظ ! لم أسترسل بحديثي لأن المؤذن أقام للصلاة.. اختصرت وقلت له: أستاذنا الكريم لقد ضاع رقمك من جهازي، أعد علي الرقم لو تفضلت، فأعاده وهو يبتسم.. ثم ودعته .. إلى اللقاء. أيقنت أن جسدي وروحي لم تتغير في ملامحها كثيرًا، فأنا مازلت على العهد القديم، ولكن يبدو أن ملامح ذاكرة أستاذي قد تغيرت ! وأسفاه.. ومرة أخرى ضاع الرقم، فغضبت على نفسي وجهازي.. وقمت أندب حظي السيئ، ما هذه السخافة ؟ لما لا أكتب رقمه على حيطان البيوت لكي أضمن أن جدرانها لا تسقط كما سقطت تلك الليالي والأزمان. وبعدما عينت وأصبحت معلمًا وكانت خدمتي آنذاك ثلاث سنوات، خرجت مبكرًا من مدرستي في ساجر إلى بريدة.. إلى ذاك المسجد الذي التقيت فيه بأستاذي، إلى تلك المدرسة التي تجاور المسجد لعله يوم كان لقائنا الثاني به كان قد خرج من مدرسته إلى هذا المسجد، ذهبت للمدرسة التي توهمت أنها هي بل أيقنت قطعًا أن هي ! التقيت بوكيل المدرسة أسأله عن اسم هذا المعلم، فقال لا أعرفه فأنا هنا منذ زمن ليس بقريب ولم يمر علي هذا الاسم، أنت متأكد ؟ لحظة أخي.. معذرة إليك.. لقد تذكرت، أعتقد أنه في تلك المدرسة الفلانية وهي ليست ببعيدة عنا.. فانطلق إليها، طفقت أبحث عن كنزي المفقود، وكأنني متسول بين المدارس أطلب بقايا ملامحي ونفسي من ذلكم الأستاذ، ولم أجده يا رفاق في تلك المدرسة، حتى هذه اللحظة.. لم أجده. لا تقولوا هذا يبالغ ويبرز وفاءه وقصصه، فأنا لا أبحث عن هذا الحديث البالي والحطام الفاني، ولكني أحثكم معشر الرفاق والمربين والمدرسين على الإخلاص والحب لطلابكم، اجعلوا أيامكم كلها ذكريات جميلة لهم ولكم، احتووهم وازرعوا الطموح المشرق في سويداء قلوبهم، وستجدون هناك طالبًا يبحث عنكم بين الممرات وفي الحوانيت يتسول ويجمع بقايا ملامحه التي بقيت معلقة فيكم، حيث هناك النفوس الكريمة تحن أن تلتقي ببعض ! وكن رجلاً إن أتوا بعده يقولون: مرَّ.. وهذا الأثرْ !