حينما انسكب الزمن على ذاكرتي، غسل كل شيء عدا طفولتي!!... وتتوالى السنون، ليأكل الشباب من ذكريات الطفولة/ الدراسة بعض تفاصيلها، تتسرب بعض المواقف من ثقوب الذاكرة، ربما نحتاج الى وجوه كثيرة لرتق اكرتنا المثقوبة لنتصور بعض الأشياء الماضية التي مجتها الذاكرة خلف هورنا، نحتاجها لتجلو الصدأ عن ذكرياتنا، فتتوهج بريقاً ينبهنا ان ثمة شخص ما زرع الجمال هاهنا يوماً وتعهد بريه). الى من علمني العطاء بلا حدود... إليك أستاذي... في الحياة لا شيء يبقى على حاله، كل الأشياء تتغير بمرور الزمان، الم يقولوا يوماً "دوام الحال من المحال"، هكذا قالت لي ملامحك حين ارتطمت نظراتي بوجهك، في ذلك المجمع التجاري الكبير، كنت انا وأنت، جسدك عبرني ولم تدلك يدك علي، رأيتك، تحمل نفس الملامح، ونفس النظرات، وتلك البسمة التي قذفتها بوجه البائع هي نفس البسمة التي كانت تعطر صباحات ايامنا.. هاهو الزمن يا أستاذي ينسيك ملامح تلميذك بعد أن كسى شعر رأسك ووجهك بالبياض، مازلت اشتم رائحتك حتى الآن، اتت من مكان بعيد من الزمن لتشدني اليك، لحظتها لم استطع ان اقاوم الماضي الذي جاء من مهد الطفولة، امسكت بيد ابني الصغير ذي العامين، وبدون شعور قلت له: هذا استاذي.. هذا من علمني كيف ارسم الحرف، وأصنع الكلمة، تركتك تتناقش بنفس البسمة الماضية مع البائع، ورفعت أبني الى صدري، وتابعت، لقد كان ابا لنا، لم يفرق بيننا، يستقبل الصباح بنا ولا يضجر من مشاغباتنا، كان لطيفاً لدرجة الحب، كثيرون من علموني، لم يغيرني الزمن نحوهم، ولكنهم تغيروا، تغيروا يا بني في ملامحهم وهمومهم ونظراتهم، عدا أستاذي هذا، اتعلم يا بني، كم اود الآن ان اخط عددين على كفي وأجمعهما وأكتب الناتج، وأركض نحوه، لاقرأ الابتسامة على وجهه وهو يسجل على راحة كفي العلامة الكاملة باللون الأحمر، شعرت بالعمر قد مر سريعاً رغم انني في هذه اللحظات لم اشعر به، بكاء طفلي حينما رأى البالونات الملونة بيد العامل وهو يشير بيده اليها افاقني من هلوستي، او من حلم الماضي -. انزلته على الأرض، نظرت الى كفي التي تحمل بلل حلاوته حينما طاف بي ان اصافح استاذي، نظرت الى زوجتي التي رأت ما لصق بيدي من حلوى أبني لتفتح حقيبتها اليدوية الصغيرة ذات القماس السماوي وتناولني منديلاً ورقياً، مسحت كفي ونظرتي تلمح جسد أستاذي وهو يفاصل البائع ابتسامته التي عشت فيها اطياف الماضي، التصق المنديل الورقي بكفي، لم استطع ان ازيل بقايا فتات المنديل من يدي، توجهت الى دورة المياه وعيني نحو استاذي، فصلني عن رؤيته ذلك الجدار الذي استدرت خلفه لأغسل كفي، وحينما خرجت، لم اجده، رحل بعدما ترك ابتسامته على وجه البائع الذي يعد نقود استاذي، تطرقني الندم ليتني الصقت حلوى طفلي بكفه، هو لن يتضايق فطالما قد التصقت حلوتي بكفه!!!. أيها الماضي الجميل، لا تعتب علي لأني لم اصافحك بكف أستاذي، فكما كان وجود طفلي هو ابتعاد طفولتي عن واقعي، كذلك كان وجوده لأن لا اصافح الماضي، مشطت ممرات السوق ابحث عن الماضي الجميل، ابحث عن استاذي لأقول له: شكراً، شكراً لقلبك الأبيض، لحرفك الأبيض، لحلمك الأبيض، شكراً طفولتي التي اتت بك لمداخلها، شكراً لأبي الذي سحبني بقوة من عتبة باب دارنا يدفعني نحو عتبة باب المدرسة، شكراً لدموعي التي ذرفتها عند باب المدرسة حينما شعرت بفقد حنان امي، شكراً لتلك الدموع التي جذبتك استاذي لتحضني بتلك البسمة التي لم ار مثيلها، لم يمتلكني اليأس فالماضي الذي حضر الى ذاكرتي اكبر من ترسبات اليأس في عقلي، تركت ابني المغمور بفرحة البالون التي اشترتها له أمه ووزعت نظراتي هنا وهناك، في داخل المحال، وخلف الزوايا، حتى في وجوه الرجال، ووجدته، وجدته هناك يحتسي قهوته في المقهى الذي يلاصق بوابة الخروج الرئيسية للمجمع، اقتربت منه، عينه لم تكن تنظر الي ولا تنظر الى احد، حينما اقتربت منه، بضع خطوات وأصافح طفولتي في ابتسامته توقفت، حاولت ان امد يدي له اصافحه قبل ان يهم بالرشفة التالية، تسمرت قدماي على الأرض، صوبت نظري اليه قلت له هامساً لنفسي "لا تلمني ان عصتني خطواتي، فهذا الزمن يرفض الماضي كما يرفض شبابي طفولتي ملامحك يا أستاذي، كانت كأجراس قرعت في ذاكرتي لتوقظها من سباتها العميق ومابين دقاتها ونظراتي التي صوبتها اليك امطر الفرح بداخلي، هنيهات فقط واكتملت كل الصور في ذهني، لتنطلق خطواتي التي اسرتها ذاكرتي، وتتجه بثبات نحوك، وقبل ان اصافحك كتبت في عيني كل سطور الامتنان، هل سيذكرني ام ان الحياة ومشاغلها قد بنت الجدران على ذكريات الدراسة، "نعم ان لم يذكرني فسأذكر له ذلك الموقف عندها حتما سيذكرني" هكذا قلت في نفسي مددت يدي مصافحا، وحين علقت يدي بيدك شعرت بحنان الأبوة الذي افتقدته منذ زمن، أستاذ محمد أتذكرني؟!. حين صمت عرفت انك لم تتذكرني فما أكثر الطلاب الذين مروا عليك فمن اين لك بتمييز ملامح احدهم والذين غير الشباب ملامح طفولتهم، لم اكن اود التعريف باسمي بل اود ذكر الموقف الذي ظهر جليا امام عيني قبل لحظات. همست اليك باحترام: "أنا تأبط علما"، عندها علت ضحكاتك وصافحتين بحرارة، فرحت كثيرا بك، وفرحت اكثر بذاكرتك التي ما زالت تحتفظ بي، الا زلت استاذي تذكر تلك القصة حين كنت في الصف السادس الابتدائي ارتاد مكتبة المدرسة وأدس بعض الكتب تحت إبطي وبعضها امسكه بيدي، كانت كتبا علمية بسيطة تناسب سني وبعض قصص، وحين رأيتني وضعت يدك الحانية على كتفي وقلت: ثمة شاعر يدعى تأبط شرا لأنه كان يضع السيف تحط إبطه، وأنت سأسميك تأبط علما لأنك تضع الكتاب تحت ابطك، لم افهمك جيداً وخجلت طفولتي ان تسألك، لكن كلماتك تغلغلت في ذاكرتي، وانصرمت الأيام وافترقنا ومر علي ذاك الشاعر تذكرتك حينها وابتسمت بعد ان فهمت الأمر جيداً، ليأتي هذا الموقف كهمزة وصل تربط بيننا وتذكر كلا منا بالآخر، أستاذي، كما عهدتك، بقيت كما انت لم يتغير فيك شيء سوى التجاعيد التي حطت على وجهك والعروق الناتئة من يديك ووقار الشعرات البيضاء التي صبغت لحيتك، لكن مازال بحر الروعة يتدفق بداخلك، كلماتك كما هي وابتسامتك لها ذات الإشراق بالرغم من توالي الأيام، عشت طفولتي بعدما مزجتها بريعان شبابي ودخلت دارك وارتشفنا سوياً القهوة والطفولة والذكريات والمستقبل.