كنت في مجلس أحد كبار السن ذات يوم وكان يحدثنا عن بعض أصدقائه وعن وفائهم ونخوتهم، ورأيت علامات الفخر والاعتزاز وهي تتجلى على ملامحه كلما ذكر قصة من قصص هؤلاء الأصدقاء، فتجرأت وسألته عن رأيه في الصداقة بين أفراد هذا الجيل فالتفت إلي سريعا ثم قال: «صداقة حسلان»، فضجّ المجلس بالضحك، ولكوني عشت فترة من الزمن في القرية فقد عرفت مدلول هذا المثل، فالمقصود بالحسلان هنا هي الثيران الصغيرة التي تجتمع لترعى في المزارع فتبدو متقاربة ومتآلفة، ثم لا تلبث أن تتفرق بعد الانتهاء من فترة الرعي ليسلك كل حسيل منها طريقا مختلفا عن الآخر، وهكذا هو الحال بين أصدقاء اليوم إلا ما ندر. كانت الأنساق الاجتماعية السائدة في الماضي والقائمة على عدد من التفاعلات الاجتماعية بين أفراد المجتمع الواحد، التي يحكمها عدد من القيم والمعتقدات والرموز المشتركة، تعطي أهمية قصوى للصداقة والاحتفاء بالصديق، وقد نقلت لنا ثقافتنا العربية شيئا من هذا الاحتفاء، فهناك المثل العربي الذي يمجد الصداقة والصديق بقوله: «رب أخ لك لم تلده أمك»، كما قال المتنبي في ذم الديار التي لا يكون بها صديق: شرّ البلاد بلادٌ لا صديق بها … وشرّ ما يكسب الإنسانُ ما يَصمُ ومع التغيرات التي حدثت في منظومتنا الاجتماعية وظهور ما يعرف بصداقة المصالح، إضافة إلى استيلاء التقنيات الحديثة وتطبيقاتها على أغلب أوقاتنا، فقد فقدت الصداقة الحقيقية بريقها وأصبحت مجرد أحاديث باهتة، وأصبح العثور على الصديق الحقيقي بمثابة العثور على إبرة ملقاة في كومة من القش. ورغم الوصف اللاذع الذي وصف به ذلك المسنّ لصداقات هذا الجيل ومع اقتناعي بأن تلك المقولة الشائعة «جيبك صديقك» التي عنونت بها هذا المقال لا تخلو من الحقيقة وأن يدك يجب أن تظل على جيبك مهما تكاثر الأصدقاء، فإنني ما زلت متفائلا بوجود تلك الفئة النبيلة بيننا – فئة الأصدقاء الأوفياء – حتى وإن لم نشعر بهم، فهم لا يظهرون إلا في الساعات الحرجة، والأوقات الصعبة.