علمتني الحياة أن صداقة الدراسة قد تنتهي بانتهاء الدراسة، وأن صداقة المال قد تموت بانتهاء التجارة أو المصلحة المرجوّة، وأن زمالة العمل قد تتقطع أواصرها بسبب الانتقال أو الاستقالة أو التقاعد، وأن صحبة السفر قد لا تدوم طويلاً بعد العودة منه.أما صداقة الفكر عامة وصداقة الفكر الحر المستنير في المجتمعات المقيدة المنغلقة بشكل أخص، فهي الصداقة الخالدة الشامخة المستمرة في غالب أحيانها. ليس هناك أثمن من رفيق طريق القناعات والرؤى والآراء والمواقف والمفاهيم المشتركة أو المتقاربة في أي مكان وزمان، فكيف إذا كان هذا الصديق متفقاً معك في توجه معين في مجتمع يرفضه، أو يصفه غالب أفراده بالضلال أو الزيغ أو الفساد أو الانحراف جهلاً بحقيقته، أو عجزاً عن اللحاق بركبه، أو لعدم القدرة على فهمه واستيعابه بشكل سليم. إن رفاق الفكر عزيزي القارئ (مهما كان توجهك) هم أكثر الناس وفاءً وصدقاً وإخلاصاً لك -في الغالب- وأكثرهم تجاوزاً عن هفواتك وصفحاً عن تجاوزاتك، فلينهمر مطر تسامحك أنت أيضا على تلك المعادن الأصيلة لأولئك الأصحاب الأحباب، ليغسل ما قد يتراكم عليها من غبار الزمن وترابه، وأعني بذلك الأخطاء التي لا بد منها، فليس هناك إنسان كامل معصوم من الأخطاء أبدا. رفاق الفكر هم الثروة الحقيقية النفيسة التي أوصي نفسي قبل أن أوصي الآخرين بأهمية المحافظة عليها، وعدم التفريط بها، مهما كانت الأسباب، وإذا كان القول المأثور يقول (التمس لصديقك سبعين عذراً إذا أخطأ) فصديق المنهج والمسار يستحق التماس آلاف الأعذار له عند ظهور خلل أو حصول زلل. من السهولة أن تجد صديقاً تقضي معه وقتاً جميلاً، ولكن الصعب هو أن تجد مجموعة من الأصدقاء المتفقين معك في وجهات النظر لتقيم معهم العلاقات الوثيقة الثابتة، ليشاركوك حياة الغربة الفكرية إن صح التعبير، فإذا وجدتهم فغض الطرف عن هفواتهم، وعض على صداقتهم بالنواجذ، وتمسك بها أشد التمسك، وأعلم أنها قد لا تتكرر بسهولة. قال لي أحد الزملاء الذين يتفقون معي في تفضيل العزلة - أحياناً - على التواصل الاجتماعي المطلق أو غير المنضبط: إن استمرار الصداقات الحقيقية الجادة الدائمة الوفية في هذا العصر المادي التقني الغارق في ضغوط الحياة أمرٌ صعب المنال، فقلت له: أتفق معك في ذلك؛ باستثناء صداقة الفكر، فقد علمني العقد الأخير من حياتي الماضية أنها أصدق العلاقات وأكثرها جدية ومتعة ووفاءً وقدرة على الدوام. [email protected]