ثلاث سنوات فقط، فصلت بين موت المعلمة نورة الشعلاني، وبداية تعيينها بوزارة التربية والتعليم، ولو أنها تعلم أن نهايتها ستكون هكذا على طريق الحناكية، وتنقل بطريقة سيئة بعد موتها، من المدينةالمنورة إلى مكةالمكرمة، ويعامل جثمانها بما لا يليق، ما أقدمت على مهنة صارت في الآونة الأخيرة، مقبرة لكل من ترفض الوزارة نقلها قرب أسرتها وبيتها، وتجد نفسها مجبرة على أن تقطع عشرات الكيلو مترات ذهابا وإيابا، حتى يقضى الله أمرا كان مكتوبا. وارت نورة الثرى، وانتقلت إلى الدار الآخرة، ولكن ما حدث لزوجها ولجثمانها قبل دفنها قصة يجب أن تروى وتنقل للمسؤولين فى وزارتى الصحة والتربية لمحاسبة المقصرين والمهملين والذين لا يقدرون ولا يكترثون بحرمة الموتى. في منزل أسرة الفقيدة، وبنبرات تقطر حزنا وألمًا على فراق شريكة العمر استمعت "الوئام" إلى ما لا يصدقه عقل، ولا يقبله عاقل. قال خليل الشعلاني زوج المعلمة نورة: خرجت يوم الخميس الماضي من عملى، عازما قضاء الإجازة برفقة زوجتى التي تعمل معلمة تربية إسلامية بإحدى مدارس المدينةالمنورة، وبينما كنت في الطريق أجريت اتصالا بها فلم ترد، وبعد أن عاودت الاتصال أكثر من مرة دون أن أتلقى ردا، داهمني القلق، وسكنني الخوف على حياتها، وازداد قلقي عندما لم يجب السائق هو الآخرعلى اتصالي، وصرت أضرب أخماسا بأسداس، وبعد نحو ساعة تقريبا من وصولى إلى طيبة، وبالتحديد في تمام الساعة الثانية ظهرا، جاءني صوت المشرفة التربوية تطلب منى الحضور وتخبرني بالنبأ الأليم (زوجتك تعرضت وسيارتها لحادثة مرورية، وتم نقلها إلى مستشفى الملك فهد بالمدينةالمنورة). يصمت خليل برهة من الوقت، قبل أن يستأنف حديثه قائلا بصوت خافت: الله يرحمها ويغفر لها، ما كنت أتخيل أبدا أنها كمعلمة ومربية أجيال، ستتعرض بعد موتها إلى هذه المعاملة القاسية، وهذا الموقف غيرالإنساني. أقاطعه- ماذا حدث؟ فيجيبني بدمعة محتبسة تحاول الخروج من عين شاردة، في وجه شاحب يعاني من آثار الفاجعة ويقول: فور وصولي أفادوني بأن زوجتي تم نقلها إلى مستشفى الميقات، وهناك تلقيت نبأ وفاتها، فاهتزت الأرض من تحت قدمى، فهي رفيقة دربي وشريكة عمرى، وكم من مرة طلبت نقلها، ولا أحد يستجيب، ولا أذن لمن تنادي، حتى دفعت ثمن غربتها وهي داخل وطنها، موت على الإسفلت ولكن ماذا نفعل؟ فنحن نؤمن بالقضاء والقدر، ولكن لا نرضى مهما كان الأمر بالإستهتار بحرمة الموتى. وفجأة يتوقف ثانية عن الكلام، وكأنه يسترجع مشهد المأساة، ثم يفك رأسه من بين يديه ويقول: في المستشفى قابلني مشرف تربوي وسألني عن احتياجاتي.. فقلت له أحتاج إلى إنهاء الإجراءات الرسمية والأوراق الخاصة بالدفن وسيارة لنقل الجثمان إلى مكة لتراها أمها وأقاربها، قبل دفنها. وماذا كان رده؟ صادما، مفاجأة لم أكن أتوقعها في هذا الموقف، قال لي بكل فتور يحسد عليه: ادفنها في المدينة لأنهم لايستطيعون توفير سيارة مجهزة لنقلها. وبعد مساحة من الجدل والنقاش، استلمت جثة زوجتى، دون أن أعرف أي تفاصيل عن الحادثة، وهل هناك أطراف أخرى أم لا؟، ولم أستلم أي شيء يخصها حتى الآن كجهاز الجوال وشنطتها ومحفظتها وباقي أغراضها. وتابع الشعلاني، اضطررت مكرهًا إلى نقلها بسيارتي الخاصة لمسافة 450 كلم وصولًا إلى مكةالمكرمة معرضًا نفسي للخطر وللمساءلة، حيث مررت بسبع نقاط للتفتيش وسط ضغط نفسي رهيب، وأنا أحمل بجوارى رفيقة دربي، بعد أن ألقاها موظفو المستشفى على أرضية سيارتي ملفوفة في كيس الموتي، ثم يغادرون الموقع، وكأنه لا توجد إنسانة متوفاة والذي يقف أمامهم زوجها. سألته وماذا كان شعورك في تلك اللحظة؟ فأجاب ضاربا كفا بأخرى، لم أتمالك نفسي، بكيت بحرقة، وأنا أسترجع شريط ذكرياتها معي. وماذا فعلت طيلة الطريق، وكيف تحملت هذا الموقف الصعب وهى بجوارك كل هذه المسافة الطويلة؟ أعانني الله، وكنت في أحيان كثيرة أسهو عن الطريق، إلا أن الله سلم حتى وصلت إلى مكةالمكرمة في الحادية عشرة مساءً، حيث قمنا بتغسيلها وتجهيزها والصلاة عليها في المسجد الحرام فجر يوم الجمعة ودفناها في مقابر المعلاة. وهل سبق وأن طلبت زوجتك نقلها؟ نعم طيلة السنوات الماضية، ومنذ بداية تعيينها قبل 3 سنوات، ومع كل حركة نقل كانت تتقدم بطلب، ولم يكتب لها ذلك، وظلت تمني نفسها كغيرها من المعلمات المتغربات، إلا أنها رحلت دون تحقيق أمنيتها. ويمضى مستغربا متعجبا: تخيل أنني في ذلك اليوم، كنت متجها للمدينة بمحض الصدفة؟ ففى أحيان كثيرة أجلس بالأسابيع دون أن أسافر لها؟! إن أشد ما يحزنني الآن عدم إبلاغه بالحادثة إلا بعد مرور وقت طويل على وقوع الحادثة. وطالب الشعلاني بمحاسبة المتسبب في كل قصور حدث لزوجته، متسائلًا في ختام حديثه للوئام هل يليق بالميت أن يتم نقله بهذه الطريقة فما بالكم بمعلمة مربية، وهل يستطيع اي مسؤول في وزارة التربية أو في وزارة الصحة أن يواجه ما واجهت من ضغوط نفسية وعصبية طيلة الطريق جراء حمل زوجتى معى وفي سيارتي بجواري كل هذه المسافة الطويلة؟ ويمضى الشعلاني راويا جانبا من رحلة كفاحه وصبرها على ضربات الحياة: فقدت ثلاثة من أبنائها على فترات متقطعة وفي أعمار مختلفة بسبب مرض وراثي، كما أنها أسقطت مجبرة ثلاثة أجنة كان الأخير منها في الفصل الدراسي الثاني بعد أن بقي الجنين متوفيًا في بطنها شهرين دون علمنا، كما كانت تراجع مستشفى الملك فيصل التخصصي كل شهر أملًا في أن يرزقها الله بطفل تسعد برؤيته، ولكنها رحلت تاركة لنا حزنا من الصعب أن يفارقني حتى آخرلحظات عمرى . ويضيف الشعلاني متأثرا بوخزات الإهمال كانت مكافحة، وصبورة جدا يرحمها الله، كانت مثالًا للإخلاص والاجتهاد والمثابرة، ولم تكن تستحق هذا التقصير ونقلها بهذه الطريقة جزاء خدمتها. واختتم الشعلاني حديثه للوئام بالدعاء والرحمة للفقيدة وأن يسكنها الله أعالي الجنان، متمنيا أن لا يتكرر ما حدث مع زوجته لأي زوجة أو معلمة أخرى، وأن تأخذ الفقيدة أجر المغتربات جميعًا بإحداث نظام جديد للنقل أو حل مشكلتهن مع الحوادث المفجعة بأي طريقة كانت .. ويلتقط طرف الحديث شقيقها جاسر الشعلاني قائلا: نحن مؤمنون بقضاء الله وقدره، ولكن عدم الاهتمام بإختنا، وعدم الوقوف بجوار زوجها فى هذا الظرف العصيب ضاعف من معاناتنا، مشيرًا إلى أن زوجته تعمل هي الأخرى معلمة لغة عربية واجتماعية في منطقة الليث، وتذهب يوميًا لمسافة 300 كلم ذهابًا وإيابًا، وقد دخلت في حالة نفسية سيئة بعد الفاجعة، ولا ترغب في الذهاب إلى مدرستها خشية تعرضها لمكروه ولا أعلم هل تستمر أم لا، مطالبًا المسؤولين في وزارة التربية والتعليم بنقلها بالقرب من مقر سكنها وولتكون بين ذويها بمكةالمكرمة حتى لاتتكرر أحزان الأسرة بفاجعة أخرى لا قدر الله .. واقترح جاسر أن يتم تعيين المعلمات بالقرب من سكنهن أو مناطق ليست بعيدة كل هذا البعد أو على أقل تقدير توفير مجمعات سكنية استثمارية بالقرب من القرى والمدارس النائية، مطالبا بحافلات تتوفربها كل وسائل السلامة والأمان لنقل المعلمات من وإلى مدارسهن، ولا يقود هذه الحافلات إلا المؤهلون للقيادة، مهنيا طبيا. كما طالب شقيق الفقيدة بتحديد فترة زمنية للغربة بسنوات محددة، منتقدا عدم تواصل قيادات التعليم معهم، لافتا إلى عدم قيام أي أحد بتعزيتهم سوى المشرف الذي قابل زوج الفقيدة، والمشرفة التي أجرت اتصالًا هاتفيًا بإبلاغ فزوجها في الثانية ظهرًا، وكنا ننتظر تقديم تسهيلات أفضل تخفف من مصابنا. وقبل أن يودعنا جاسر بمطالبه وأمنياته ومقترحاته، ترك الحديث إلى سلطان السرواني قريب الفقيدة، فأشار إلى أن الأسرة تعيش في صدمة نفسية سيئة للغاية، كما أن شقيقته ابنة عم الفقيدة تعمل في إدارة التربية والتعليم في محافظة عفيف من ست سنوات، وبدأت هى الأخرى تخشى الذهاب إلى عملها، حتى لا تفجع الأسرة بحادثة ثانية لاسمح الله، مطالبًا بنقلها إلى مكةالمكرمة تقديرًا لحالتها النفسية ولظرف الأسرة القاهرة. رابط الخبر بصحيفة الوئام: زوج معلمة ينقل جثمانها بسيارته الخاصة من المدينة للصلاة عليها في مكة