لم يجد مواطن ترجمة حبه لشريكة عمره، وأم أبنائه، بعد رحيلها، إلا بتحمل آهات نقل جثمانها، لمسافة تصل إلى 370 كلم، يسرق النظرات لها، فيما صغاره خلفه يواسيهم بالإيماءات مرة، ويضمد عذاباتهم المرتقبة بلوحة صبر لا يقوى عليها إلا ما رحمه الله. ولم تكن القصة التي كشف عنها ل«شمس» أحمد القريشي، إلا نموذجا لمعاناة مواطن مع نقل الأموات، فلا لمس إكرام الموتى، ولا شاهد تعاملا إنسانيا يكرس المعنى الحقيقي للإنسانية، أو يجسد المعنى العام في الخدمات الصحية أو حتى البلدية. القريشي عاش أكثر من ست ساعات، لا يعرف معنى الألم، على الرغم من أنه يعيشه، خدر نفسه بمسكنات الصبر، حتى لا ينزف جرحه، أمام صغار لا يعرفون من الدنيا إلا قاموس الحياة، فيما خواطرهم لا تعرف بعد معنى الموت، أو قطرات الألم على الفراق. «ذهبت أم الأولاد.. فالموت حق»، نطقها القريشي معنى، وليست لفظا، ولكن ماذا عن الآخرين والأخريات اللاتي ربما يذهبن، ولا يجد ذووهن إلا طعم الجرح نفسه، ومرارة سوء الخدمات. لم يتوقع القريشي أن انتقاله من مدينة لأخرى ربما يفقده حقه وأولاده في الخدمات، حيا أو ميتا، ولم يتوقع أن باب نقل الجثامين من مدينة لأخرى، موقع عليه بالخاتم الأحمر «مغلق بلا إشعار آخر»، على الرغم من أن الجهات المختصة لا ناقة لها ولا جمل في الخاتم، فمن وضع الخاتم؟ مصيبة الموت «وَمَا تَدْرِي نفس مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نفس بِأَي أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّه عَلِيمٌ خَبِيرٌ» «لقمان: 34» آية كريمة لطالما قرأها القريشي، لكنه فعل كما فعل الصحابة عندما تلقوا خبر وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، عندما رتل عليهم الصديق أبو بكر رضي الله عنه الآية الكريمة: «وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم» «آل عمران 144»، فقالها أمير المؤمنين عمر: « فلكأني لم أقرأها إلا يومئذ». في الشرقية رتل القريشي، ما رتله، وما عرفه، واستباحت لسانه آيات الذكر الحكيم، ليجد نفسه جريحا مضمدا بفضل الله. الأربعاء الماضي ذهبت أسرة القريشي المكونة من سبعة أحياء، وعادت بعد يومين في الجمعة بالعدد نفسه، واختلف العتاد: «ستة أحياء وجثمان». ماذا حدث؟ خرج القريشي من الرياض إلى الخبر، رغبة منه في نزهة عائلية يخفف عن صغاره، وأمهم مرارة العمل المتسارع، وغياب الساعات الطويلة التي يكد فيها من أجل لقمة العيش. أدرك أن البحر يرمي كل الهموم، حتى الصغار، سيفرغون في جوفه كل الضيق، فكان لهم ما أرادوا، ولكن: «أنت تريد والله يفعل ما يريد». هكذا رآها القريشي آية واضحة، يتعلم فيها التوكل عشية وضحاها، ألقى بثقل الآلام في البحر، وعاش الصغار أجمل اللحظات على الشاطئ، وعادوا ليلا لعش العصافير في شقة استأجروها لإحياء الذكرى، فاستبدلت بمصطلح «ذكرى الأحياء». فجر الجمعة، استعادت الأسرة أسرتها المستأجرة، واستعاد الجميع، غرفة الحياة المؤجرة، لكن في الرابعة فجرا تغير الأمر: «لم أعرف ماذا كانت تعني زوجتي في وصاياها لي بالصلاة، والأبناء، صممت على الأمر قبل الخلود للنوم، وبعد نصف ساعة، رأيتها في غير الحال، خرجت أم ريان مسرعة من غرفتها إلى المطبخ، تطارد شرفة ماء، ولم تعرف أن الموت لا يطارده أحد، خرجت بكامل قواها، ولم تعرف أنه لا قوة لأحد على مواجهة الموت، سألتها عما دهاها، فأجابت بلسان أخير، «عن المياه سر الحياة»، لكنها مياه الأوكسجين التي لطالما ارتشفتها رئتاها لتبقى على قيد الحياة، في ظل إصابتها بالربو». لكن القريشي يعترف: «توجست خيفة من علامات الزرقة التي اكتست شفتيها، وهممت لمساعدتها، لكن خطوات الفرار إلى الموت، كانت أسرع، التقطت أنبوبة الأوكسجين فكانت سر الموت، ثم انتهى كل شيء في لمح البصر». قلبها يمنة ويسرة، لعله يخرج من أنفاسها زرفة أو حتى شهقة، فلم يجد إلا أنفاسا سلمت أمرها لخالقها، صاح بأعلى صوت غير مسموع: «إنا لله وإنا إليه راجعون»، اهتز وبكى وخرجت دموعه تسابق الصوت، فلم يعرف معنى الصراخ إيذانا بفقدان العزيزة الغالية، ولا معنى الصمت المطبق إيذانا بالحفاظ على فلذات أكباد لا يعرفون طعم الحياة من غير أم: «شاءت إرادة الله أن تخرج روحها أمامي، فلم أعرف كيف أتصرف، غير أنني أبكي وأصرخ في داخلي ودموعي تتجمد في عيني، ولساني لا ينطق الصرخات، ماذا أفعل، هكذا دعوت الله الصبر والجلد، فكان لي ما أردت، وكان لها ما أرادت ميتة هينة بلا تعب أو مرض». سارع القريشي بمهاتفة الإسعاف، حاورهم بثلاث حجج، بقوة الملكوم، وبأمل المتلهف، وبهدوء المتيقن الصابر: «انقذوني زوجتي في خطر»، ثم أطبق السماعة، وأطبقت الدنيا على رأسه. انتظر 60 دقيقة، حتى وصلوا إليه، على الرغم من أن التوقيت لا يعرف معنى الزحام المعهود في الخبر، ولا يعرف «معنة الذرزة»، فالفجر لا يتحرك أحد من السكان، لكن الهلال الأحمر ربما شاطر السكان حالهم، فلم يأت التحرك باكرا «حسبما أكد القريشي»، متحسرا: «جاؤوا بعد ساعة كاملة، فيها عشت الموت وأنا حي، فلا أحد يضمد جرحي، ولا أحد يشد من أزري، ولا أحد يتحمل عني عناء مشهد الجثمان، ولا أحد يسعفني في كيفية التصرف في هذا الموقف». ويواصل القريشي: «لكن الإسعاف وصل، ورفض الإسعاف، بعدما أكد الطبيب المرافق أنها توفيت، ولا مجال لإسعافها، لأنها فارقت الحياة منذ ساعة، ما يعني لحظة سقوطها أمامي». التعامل مع الموت عندها انتهى موقف الحياة، وبدأ القريشي في موقف التعامل مع الموت: «طلبت منهم نقلها إلى أي موقع تجهيز للموتى، ليتسنى لي نقلها للدفن في الرياض، فلم يوافقوا، ورفضوا نقلها، ورحلوا من حيث أتوا، وبقيت أسارع الزمن، فالدقائق تمر، وإكرام الميت دفنه، والإسعاف لا يرضى النقل للدفن، والنقل يتطلب ورقة شرطة، والشرطة تريد ورقة مستشفى، والمستشفى القريب الذي راجعته وغيره، يرفضون التعاون بحجة عدم التخصص، والأهل في الرياض، ولكن العون من الله». ما إن تلقى القريشي التأكيد من المستشفيات الخاصة أنه لا مكان لديهم للموتى المواطنين، واختصاصهم بالموتى الوافدين، لم يتوقف عند المعنى والمغزى، فقط توقف عند الفحوى إلى مفاده، لا مكان لجثمان أم ريان في المستشفى: «راجعت مركز الشرطة، حيث إنه لا مجال لنقلها إلا بورقة شرطة، فلم أعثر على نموذج النقل، حيث إن الجثة لا تنقل إلا بمحضر من الشرطة، يطلب من الطبيب إثبات أن الحالة متوفاة وكل دقيقة تمضي تقطع أجزاء من جسدي، وحاولت البحث عمن ينقلها، فلم أجد تجاوبا من أي مستشفى أو جهة أخرى، لكنني وجدت النصيحة الغالية والصعبة، حيث أشار علي دكتور يعمل بأحد المستشفيات التي راجعتها بحمل زوجتي ونقلها بسيارتي الخصوصي، طالما أصر على نقلها». رحلة العودة تعلق القريشي بقشة الطبيب، واستفاد منه ببعض الإرشادات للحفاظ على الجثمان، وعاد للمنزل، واستنفر المروءة من حارس أمن البناية التي يسكنها، حيث ساعده على حملها، «حيث سيارتي، وهناك ثبت الجثمان في المقعد الأمامي بحزام، بعدما ألبستها العباءة، ووضعت اللحاف على جسدها بشدة، وقمت بوضع الثلج على جسدها كاملا، وبدأت معاناتي الحقيقية في اصطحاب الصغار، وسألت نفسي ماذا أجيب عن تساؤلاتهم، حول ما حل بأمهم، فقررت الصمود حتى اللحظة الأخيرة». أين المرور؟ ويستمر في التفاصيل، بعدما ذرف دموعا وأدها وخز المناديل الورقية على عينيه: «أزلت المرتبة الخلفية، وأركبت أبنائي الخمسة، وطلبت من الله بأن يعني على الرحلة الطويلة، ويثبت قلبي وقلب أبنائي طوال الرحلة، في الطريق إلى الرياض بدأ أبنائي يبادرون بالسؤال كل لحظة، ماذا حدث لأمي، فأجيبهم بأن حرارتها مرتفعة، لذا أخففها بوضع الثلج عليها حتى تنخفض الحرارة، فيصدقون المقولة، ويستعيدون براءة الطفولة بلعب وصياح، داخل السيارة، لكن أحدهم يأتي ويحاول تفريق الغطاء، فأتمسك بالهدوء، بعدم نهره، وإفهامه بخطأ فهمه، خوفا على ردة الفعل، والاستنجاد بالجثمان المسجى في المقعد الأمامي، بل ضاحكتهم أحيانا، وكلي ألم، حتى كدت أنفجر باكيا، لولا عون الله، عندما شكرني أحدهم لأنني أحب أمه كثيرا وأحافظ عليها، بوضعي الثلج عليها، وكان كل ما يهمني انشغالي بتثبيت الجثمان، مع المنعطفات، لكن ساعدني بعد الله تصلب الرأس من عدم ترنحه يمينا وشمالا، ومررت بعدة نقاط التفتيش في طريقي إلى الرياض، واتصلت على المرور لإفساح الطريق، وصولا في أقرب وقت ممكن، ولكن للأسف لم يتجاوب معي أحد، سوى سماعي الوعود، التي تحققت بعد وصولي إلى باب المغسلة». حيرة الدفن ويستعيد القريشي سرد أصعب رحلاته: «قبل الرياض بنحو 200 كيلو متر، التقاني أخي وأقاربي، ورافقوني حتى دخلنا الرياض، لكنني احترت أين أذهب، هل أذهب إلى المنزل، وأنزل صغاري، خوفا عليهم من الصدمة، أم أسارع بالانتقال إلى مغسلة الأموات، ففضلت الخيار الأخير لأنهم حتما سيعرفون الأمر، ورغبة في إكرام الميت، لكن عند باب المغسلة، سألني الصغار، «بابا وين تروح ماما»، عندها لم أتمالك نفسي، وأخبرتهم بالفاجعة، وبأن والدتكم انتقلت إلى رحمة الله، عندها بدأت في الصياح على زوجتى بعد مرور ما يصل إلى عشر ساعات على موتها، وانفجر معي الأبناء، وبدؤوا يتقاطرون على جثمانها، حتى انتزعهم منها». لكن القريشي الذي بكى خلال سرده التفاصيل بحرقة، أقسم أنه يبكي مرتين لأنه فقد الأعز، ولأنه لم يجد في الشرقية ولا في الرياض من يمد يد العون لتضميد الجراح، فلا أسعفوه بإكرام الميت، ولا تحملوا عنه عناء السفر، ولا أكرموا زوجته الميتة، ولا أسعفوها نقلا: «هل عاد إكرام الميت نقله بالخصوصي، سؤال لا أعرف إجابته، ولا أظن أن البلدية أو غيرها ممن لم يقفوا معي في مثل حالتي يعرف الإجابة»