دخلت قوات جنوب السودان مدينة هجليج النفطية السودانية، قاطعة الطريق لأي بصيص أمل في طاولات المفاوضات، فانتقلت الأزمة من العراك السياسي إلى الحرب العسكرية المباشرة، وأعلنت الدولتان حالة الاستعداد التام لها. ولم تفلح كل النداءات الدولية حتى الآن في نزع فتيل الأزمة. الرئيس السوداني عمر البشير اعتبر أن الجنوب اختار طريق الحرب لحساب أجندة خارجية، بينما هدد بعض أعضاء حكومته بالرد داخل العمق الجنوبي، كما أوقف البرلمان السوداني كل مسارات التفاوض مع دولة الجنوب. في المقابل قطع رئيس دولة جنوب السودان سلفا كير ميارديت بعدم خروج قواته من هجليج التي اعتبرها تارة من ضمن أراضي دولته، وتارة اشترط خروجه منها بخروج الجيش السوداني من أبيي. وزاد عدد من قادته في الشروط ووصلت إلى خروج الجيش السوداني من كل المناطق الحدودية المتنازع عليها. وألمح عدد من المراقبين إلى عدم جدوى التفاوض بين الطرفين. إلهاء الخرطوم ففي الوقت الذي تتفاوض فيه الدولتان في أديس أبابا، كانت قوات الجنوب تتحرك صوب هجليج التي حاولت دخولها قبل أسابيع ولم تنجح في ذلك، مما يعني إصرار الجنوب على دخول هذه المنطقة بأي شكل رغم أنها من المناطق غير المتنازع عليها. واعتبر كثير من المراقبين أن طاولة التفاوض كانت تعني للجنوبيين إلهاء الخرطوم عن تحركاتهم العسكرية تجاه المنطقة، وأن وجودهم في أديس أبابا كان لكسب الوقت لا أكثر. فلماذا هجليج، ولماذا الإصرار عليها؟ تقع منطقة هجليج قرب الحدود مع دولة جنوب السودان وتبعد نحو 45 كيلومتراً إلى الغرب من منطقة أبيي بولاية جنوب كردفان، وتعتبر من المناطق الغنية بالنفط والمهمة اقتصادياً ومن أولى المناطق التي بدأت بها الحكومة السودانية استخراج النفط منتصف التسعينيات، ويوجد فيها حوالي 80 بئرًا من النفط تغذي الاقتصاد بإنتاجية تتجاوز ال20 ألف برميل يومياً حسب بعض التقديرات. وتضم هجليج محطة ضخ النفط الرئيسة التي تضخ نفط الشمال والجنوب على السواء قبل إقدام حكومة الجنوب على إصدار قرارها القاضي بوقف ضخ النفط الجنوبي. كما تضم محطة معالجة خام النفط الرئيسة، وخزانات للوقود الخام بسعة تزيد على 400 ألف برميل، ونحو 19 معسكرًا لموظفي الشركات العاملة في مجال النفط، منها المحلية والأجنبية، بجانب محطة كهرباء تغذي كل حقول النفط في المنطقة، وهي المحطة التي بدأ بها الاعتداء على المنطقة في 28 مارس الماضي. وتعتبر الداعم الاقتصادي الأول للخزينة نتيجة وجود غالبية إنشاءات البترول الرئيسة بها، كما ساهم وجود شركات النفط بالمدينة في التنمية المحلية والتقليل من حدة البطالة في كثير من المناطق المجاورة لها رغم بعض الشكاوى من عدم الاستفادة منه من بعض قبائل المنطقة. استراتيجية هجليج من الناحية الاستراتيجية، تعتبر هجليج البوابة الرئيسة لولايات جنوب وشمال كردفان وشرق وجنوب دارفور، نظرًا لامتداد سكانها الذين ينتمون قبلياً لهذه الولايات كقبائل المسيرية والرزيقات وبعض القبائل الأخرى من الشمال، كما تعتبر هجليج إلى جانب موقعها الاستراتيجي الممول الرئيس لموازنة الدولة بما تبقى من نفط عقب انفصال الجنوب لأنها المنطقة التي تبدأ منها جميع أنابيب نقل النفط إلى الخرطوم أو بورتسودان. ولم تكن هجليج محل صراع بين السودان ودولة الجنوب حتى عندما كانت الخلافات تشتعل حول منطقة أبيي لوجودها في عمق الأراضي السودانية بجنوب كردفان، وتوجد بالمنطقة حقول البترول الشمالية وفي الجهة المقابلة لهجليج توجد ولاية الوحدة وفيها كذلك آبار بترول تابعة لدولة حكومة الجنوب بمعنى أنها منطقة حدودية ومنطقة فيها بترول وهذه الآبار البترولية نصفها هنا في الشمال والنصف الآخر في الجنوب ووفق اتفاقية نيفاشا فإن أصول البترول حسب خط الترسيم ما يقع منها شمالاً يكون تابعاً للشمال وما يقع منها جنوباً يكون تابعاً للجنوب، ووفقاً لهذا التقسيم قد تكون هذه المنطقة منطقة مصالح مشتركة ولكن لا نزاع حول ترسيمها وهي تبعد حوالي 70 كيلومتراً من الحدود الجنوبية. ما أخذ بالقوة لا يسترد بغيرها القيادي بالمؤتمر الوطني الدكتور ربيع عبدالعاطي، اعتبر أن الحرب بدأت بشكل فعلي بين الشمال والجنوب، معتبراً دخول قوات دولة الجنوب إلى هجليج واحتلالها هو تدشين للمعركة. وأضاف: أن الجنوب راهن على سقوط الحكومة في الخرطوم عندما أوقف ضخ نفطه، ولما تجاوزت الخرطوم الأزمة لم يبق إلا وقف ضخ البترول السوداني مما يتسبب في خنقه اقتصاديا، ومحاولة ابتزاز الحكومة السودانية لتقديم التنازلات في بقية القضايا. وأشار إلى وقوف جهات خارجية مؤثرة وراء هذا الهجوم الأخير، ما يبرر موقف رئيس دولة الجنوب سلفا كير وتعنته برفض خروج قواته من المنطقة رغم المطالبات الدولية بذلك. ويؤكد عبدالعاطي أن الجنوب لا يستطيع المكوث في المنطقة كثيرا كما لا يستطيع تحمل تبعات الحرب، فالدولة الجديدة مخنوقة اقتصاديا وتتجاذبها المشاكل والأزمات من كل النواحي، مشدداً على أن ما تم أخذه بالقوة لا يسترد إلا بالقوة. وقال: الوضع الحالي إن لم يقد البلدين إلى حرب شاملة فإن ما تخلفه تبعاته وتداعياته يصبح خطيرا جداً، مشددا على أن ما كسبته الحركة الشعبية بالسلاح ستخسر أكثر منه. وأضاف يجب أن يكون هناك تحرك عسكري الآن واسع النطاق لأن هناك غضبا شعبيا وغليانا في الشارع السوداني، ولإعادة الأمور إلى نصابها لا بد من استرداد ما تم سلبه بالقوة والاستجابة لصوت الشعب ورد الصاع بأكثر من صاعين بتلقين دولة الجنوب درساً بصعقة عالية تعيدهم إلى رشدهم. لا جدوى من التفاوض وفي الاتجاه نفسه، يرى القيادي بالحزب الحاكم عضو المجلس الوطني الدكتور إسماعيل الحاج موسى أن الخيار العسكري والحاسم هو الحل القاطع للتعامل مع دولة جنوب السودان ورد العدوان بمثله بل أكثر من ذلك، مشيرا إلى أن سلوك دولة الجنوب لم يتغير منذ 2005. ووصف أعضاء الحركة الشعبية قادة وشعباً بأنهم ليسوا برجال دولة ولا يتصرفون بسلوك المدينة. وأضاف: المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، ونحن لدغنا عشرين مرة. وأوضح الحاج موسى أنهم في الحكومة اختبروا أعضاء الحركة الشعبية منذ التوقيع على اتفاق السلام وأن خيار التفاوض لا يجدي معهم نفعاً، وقال: الآن وصلوا هجليج وإن تراخينا أكثر من ذلك ووجدوا فرصة سيصلون إلى الخرطوم. وأضاف: لا يجب أن نفاجأ بما حدث في هجليج فهذا سلوك الحركة الشعبية وأمر طبيعي لتركيبتها العدوانية، مستشهداً بحادثة الاعتداء على القوات المسلحة وقوات يونميد في كمين في أبيي، والاعتداء من قبل على هجليج نفسها. ويرى الحاج موسى أن الحل الصائب هو تسليح الجيش بكامل عتاده ودعمه بالسند الشعبي والجماهيري لرفع روحه المعنوية. وقال إنه قادر تماماً على استرداد مدينة هجليج بل التوغل في داخل حدود دولة جنوب السودان لتلقين قوات الجيش الشعبي درساً بليغاً على اعتداءاته المتكررة. ورأى أن لا جدوى من التفاوض سائلاً: ماذا أفاد التفاوض من قبل مع هؤلاء في أديس أبابا أو غيرها؟ وقال: ديدنهم أن حديث الليل يمحوه النهار، ماذا حدث بعد الاتفاق على مبدأ الحريات الأربع وتمهيد الأوضاع للقمة الرئاسية بين البشير وسلفا كير؟ ويجيب: اعتداء سافر على هجليج نفسها. وتابع: نعم الوضع خطير في المنطقة وحكومة الجنوب استولت على هجليج بالقوة ويجب أن تسترد بالقوة، بقوة كبيرة وضاربة مجهزة بعدة وبعتاد. يجب أولا استرداد هجليج وبعدها تمشيط الحدود ومن ثم تصبح كل الخيارات مفتوحة. خطورة الوضع وترك المحلل السياسي الدكتور مختار الأصم الباب موارباً لاحتمال الحل التفاوضي. وطرح في الوقت ذاته عددا من الأسئلة الملحة لتطورات الأوضاع في هجليج. وأشار إلى أن الجيش كان يعلم بتحركات حكومة دولة الجنوب ويرصدها منذ أسبوع. وتساءل: لماذا سمح الجيش السوداني بدخول قوات دولة جنوب السودان لمدينة هجليج، هل ذلك نوع من الاستدراج وخطة محكمة للإطباق عليهم بعد قطع خطوط الإمداد، أم هي محاولة للحكومة لإثبات اعتداءات الجارة الوليدة المتكررة واستخلاص إدانة من مجلس الأمن؟ وقال الأصم: على أي حال فإن الأوضاع خطيرة للغاية لأن التصعيد لا يعطل إنتاج البترول فحسب بل يعطل الآبار ويخرب أنابيب النفط، موضحاً أن حكومة الجنوب استبقت خطواتها بتمهيد أجواء الحرب وإعلانها لتعرضها لهجمات من السودان في مناطق بانتيو والوحدة لتبرر لاحتلالها على منطقة هجليج. وأضاف الأصم أن الحكومة إذا أرادت أن تستخلص إدانة وعقوبات من مجلس الأمن على دولة الجنوب فإنها ستفشل لأن أميركا وحلفاءها لن يسمحوا بهذه الخطوة، ولذلك لا بد من حل لهذه المعضلة وإن كان عبر أبواب السياسة. وقال يمكن أن نتعامل بأسلوب الرد أو بدعم وتحريض متمردي دولة الجنوب باحتلال مناطق النفط في الجنوب في بانتيو والوحدة إلا أن الخطوة ليست في المصلحة لأنها ستخلف خسائر كبيرة ولذلك لا بد من حلول مستعجلة وإن كان بينها التفاوض. سر غامض وفسر الأصم اعتداء دولة على مدينة هجليج بعدة احتمالات من بينها مقايضة المنطقة بالاعتراف بتبعية أبيي إلى دولة جنوب السودان وبعض النقاط الحدودية المختلف حولها بين البلدين أو تعطيل البترول في الشمال وخنق السودان اقتصادياً وعسكرياً لإضعاف موقفة في المفاوضات، أو محاولة من قبل دولة الجنوب للفت المجتمع الدولي بفرض حظر الطيران السوداني على الحدود الملتهبة، واصفاً احتلال هجليج بهذه السرعة بأنه "سر غامض". وقال: واضح حتى الآن أن الحكومة اتخذت الخيار العسكري ولكن يجب أن يكون بأهداف دقيقة وحاسمة. يبدو أن الساعات القليلة المقبلة تحمل في طياتها كثيرا من الأحداث، فتصريحات الحكومة السودانية تؤكد قرب ساعة الحسم، وأنها لن تقف إلا بعد تأمين شامل للحدود داخل العمق الجنوبي. وتصر على تلقين حكومة الجنوب درسا كي لا تفكر مستقبلا في مثل تلك المغامرات. وبدورهم يؤكد قادة جنوب السودان أنهم لن يخرجوا من هجليج ولن يتوقفوا إلا بعد دخول قواتهم إلى منطقة أبيي وتحريرها حسب وصفهم. ويوحى هذا الجو المشحون بأن البلدين انزلقا فعلا إلى ما يخشاه كل عاقل، فهل كانت هجليج بداية المعركة أم هي الوخزة التي يفيق بها الطرفان ويعودان إلى رشدهما؟